الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    إلى أين نحن سائرون؟…الازهر التونسي    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلمانية والإسلامية.. اللقاء المستحيل : د. رفيق حبيب
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 10 - 2008

دار الكثير من الجدل حول العلمانية والمشروع الإسلامي، وهل هناك علاقة بينهما أو منطقة تقابل، أم أنهما متعارضان تماما؟.. وفي هذا الجدل استخدمت أحيانا بعض مهارات اللعب بالكلمات، فنجد أنفسنا أمام العديد من المفاهيم العلمانية، والتي لا يحدد لها تعريف محدد، ثم نجد أنفسنا أمام بدائل من الكلمات، كأن تستخدم كلمة المدنية بدلا من العلمانية.
ثم نجد معالجات أخرى، تعتمد على التفرقة بين المسيحية والإسلام، وتخلص بأن العلمانية جاءت تحل مشكلة لدى المسيحية، وبما أن المشكلة ليست موجودة في الإسلام، فلا توجد مشكلة إذن بين الإسلام والعلمانية. وكل تلك المناقشات يغيب عنها وضع تعريف محدد للمقصود بالعلمانية، وكأن غموض الكلمة أصبح أحد أهم وسائل تمريرها في مجتمعاتنا.
زادت على ذلك بعض المحاولات التي تريد ربط العلمانية بالإسلامية، لتصل إلى نوع من العلمانية الإسلامية، وهي غالبا إسلامية علمانية، والهدف منها حل المشكلة بين التيارات الإسلامية والاتجاهات العلمانية.
فأصبحنا نواجه نوعا من التوفيق بين العلمانية والإسلامية، يهدف لإحداث مصالحة بين النظم العلمانية الحاكمة والنخب العلمانية من جانب، وبين المنتمين للحركة الإسلامية من جانب آخر، وكأن المطلوب من هذا هو الوصول إلى قبول النخب الحاكمة والنخب العلمانية المتحالفة معها والقوى الغربية المؤيدة لهذه النظم، للعمل السياسي للحركات الإسلامية. والمصالحة في حد ذاتها ليست هي القضية، ولكن القضية تتمثل في ما يبقى من المشروع الإسلامي بعد التوفيق بينه وبين العلمانية كمشروع سياسي، ولا نقول كمشروع حضاري.
أسلمة العلمانية
كل هذا اللغط يجعلنا نبحث عن معان محددة لمفردات هذا الصراع الفكري والسياسي، حتى يمكن الوصول لخلاصة تشرح فكرة العلمانية، وتحدد موقعها ليس فقط من المشروع الإسلامي، ولكن من حضارة المنطقة العربية الإسلامية، وطبيعة مجتمعاتنا وهويتها الثقافية والحضارية.
فالقضية لا تخص الحركة الإسلامية فقط، بل تخص في الأساس أمتنا ومجتمعاتنا، والتي يراد نشر العلمانية فيها، والبعض يريد علمنة المجال السياسي، والبعض الآخر يريد علمنة المجتمع؛ لذا نحن بصدد عملية علمنة، تقوم بها النخب الحاكمة ومعها النخب العلمانية المتحالفة معها، ويقف من ورائهم الحلف الغربي، بقيادة أمريكية؛ ولذلك فإن القضية لا تخص فقط العلاقة بين الأطروحة الإسلامية والعلمانية، بل تخص واقعنا المجتمعي والثقافي والحضاري.
وعليه نرى أن قضية التكيف مع العلمنة لا تؤثر فقط على دور الإسلام في المنطقة العربية والإسلامية، بل تؤثر أيضا وبالتالي على دور القيم الأصيلة لهذه المنطقة، وتؤثر كذلك على دور المسيحية لدى المسيحيين العرب.
ويضاف لذلك، أن قضية العلمنة ترتبط بالعديد من القضايا الأخرى؛ لأنها تؤسس لبناء سياسي خاص، له قيمه السياسية الخاصة به.
وعليه نرى أن قضية علمنة النظام السياسي، ومنها مسألة علمنة بعض المشاريع أو الاتجاهات الإسلامية، ترتبط بموقف العالم العربي والإسلامي بقضاياه المصيرية، ومنها قضية فلسطين.
فقد تكون العلمنة بابا من أبواب التقارب السياسي مع المشروع الأمريكي في المنطقة، ومنها تدخل أفكار أو تصورات لتنهي الخلاف مع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وهو مشروع يتضمن تصورا خاصا عن وضع إسرائيل في المنطقة.
وعلينا ملاحظة الفرق المهم بين قضية العلاقة بين العلمانية والإسلامية، كقضية محورية في مستقبل الأمة، وبين قضية وضع حزب العدالة والتنمية التركي.
فهذا الحزب، والذي جاء قادته من خلفية إسلامية، رفع شعار العلمانية المعتدلة في مواجهة العلمانية المتطرفة، وأراد أن يغير العلمانية التركية من حالة إلى أخرى؛ ولكن نجاح الحزب في ما سعى إليه، سوف يضعه أمام امتحان صعب، فقد يقبل الحزب تلك العلمانية المعتدلة، ويصير بهذا مشروعا علمانيا، أو يحاول الانتقال من العلمانية المعتدلة إلى المشروع الإسلامي.
وفي كل الحالات، فإن هذا لا يعني أن العلمانية المعتدلة هي مرحلة تسبق المشروع الإسلامي، فهذا وضع خاص بتركيا، حيث هناك ديمقراطية ومعها علمانية متطرفة.
وتلك العلمانية المعتدلة التي يريدها حزب العدالة والتنمية تعتبر درجة عالية من العلمنة إذا قيست بالأوضاع في البلاد العربية والإسلامية، والتي تمثل أوضاعها في المجمل حالة غزو علماني لم تكتمل بعد. وبالتالي نرى أن البلاد العربية والإسلامية، هي بلاد إسلامية تغزوها العلمانية، ولم تنجح بعد عملية الغزو إلا جزئيا.
وعليه فإذا نادى البعض بالعلمانية المعتدلة مثل حزب العدالة والتنمية، في البلاد العربية والإسلامية، فهو في الواقع ينادي بدرجة أعلى من العلمنة عن الواقع الموجود حاليا.
تعريف العلمانية
البعض يتصور أن العلمانية قامت لفصل الكنيسة عن الدولة، ويرى البعض أن تلك المشكلة لا توجد في الإسلام؛ لأنه لا توجد كنيسة في الإسلام، وعليه لا حاجة للعلمانية في المجتمعات الإسلامية.
والبعض الآخر يتصور الأمر على نحو مخالف، فيرى أن قضية العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة، وما دام الإسلام ليس فيه كنيسة، إذن لا مشكلة في التوافق بين العلمانية والإسلام.
وكلا التصورين خطأ؛ فالعلمانية لم تكن في أي من مراحلها أو أنواعها مشروعا لفصل الكنيسة عن الدولة فقط، بل كان هذا الفصل جزءا من المشروع العلماني، وليس أهم جزء فيه أو حتى أساسه.
وحتى تتضح الصورة أكثر نسأل: هل العلمانية قامت لفصل الدولة عن الكنيسة وإقامة دولة مسيحية لا سلطان سياسيًّا للكنيسة فيها، خاصة أن العلمانية قامت في زمن كانت كل الدول الأوروبية تعتبر دولا مسيحية؟. والوقائع تشير بوضوح، أن المشروع العلماني بكل روافده الليبرالية واليسارية، لم يهدف في أي لحظة من اللحظات لإقامة دولة مسيحية، أو دولة ذات مرجعية مسيحية؛ أي أنه لم يهدف لإنهاء السلطة الدينية، أي سلطة الحكم بالحق الإلهي، من الدول الغربية المسيحية، ليقيم دولا مسيحية ليست فيها سلطة حكم مطلقة.
ويضاف لهذا أن فكرة فصل الكنيسة عن الدولة، كانت في ذلك الوقت مشروعا بروتستانتيا، قضت عليه العلمانية.
وكان المشروع البروتستانتي والذي قام به تلاميذ مارتن لوثر، خاصة جون كلفن، يقوم على تفكيك السلطة الدينية من الكنيسة كليا، وذلك بإلغاء نظام الكهنوت بكل سلطاته، ثم إقامة دولة مسيحية، تكون السلطة فيها سياسية، ولا يكون للكنيسة سلطة عليها.
ولكن المد العلماني قضى على هذه التجربة في مهدها، ولم تؤسس دولة على هذا النظام إلا سويسرا، ولفترة زمنية قصيرة.
لهذا ليس صحيحا أن نقول إن العلمانية في أي من أشكالها هدفت إلى إقامة دولة مسيحية بدون سلطة كنسية، وبدون سلطة الحكم بالحق الإلهي.
فالعلمانية لم تكن حركة لإصلاح نظام الحكم المسيحي، بل كانت في الواقع وفي التعريف، محاولة للقضاء على أي شكل من أشكال الحكم المسيحي.
العلمانية والدين
لذلك نقول إن العلمانية لم تكن محاولة للفصل بين الدولة والكنيسة، بل عملية فصل بين الدين والدولة، أي بين الدين والنظام السياسي، أي بين الدين والنظام العام.
والعلمانية في الواقع ليست كملة مستخرجة من العلم، ولكنها كلمة مستخرجة من الدنيا أو العالم، وتقوم العلمانية على تأسيس النظام العام على القيم التي يصل لها العقل البشري، والتي يتوافق عليها المجتمع من خلال نظامه السياسي.
والعلمانية تتأسس على أن العقل البشري هو مصدر الحقيقة والحق، وأن ما يصل إليه العقل البشري هو ما ينفع، وبهذا تكون القيم العليا للنظام السياسي، هي قيم يضعها العقل البشري، ولا يستمدها من أي مصدر خارجه؛ لأن العقل البشري يمثل نهاية الحكمة في حياة البشر.
إذن العلمانية قامت أساسا على فرضية أن الدين أفسد حياة البشر، وأن التقدم لن يتحقق إلا من خلال تحييد دور الدين في النظام العام، وتأسيس الحياة العامة على قواعد يضعها العقل البشري، بعيدا عن قواعد الدين، والمقصود هنا بالنظام العام، أي الدستور والقانون والنظام السياسي والنظام الاجتماعي.
ولهذا عندما قامت العلمانية وطبقت عبر عقود في الدول الغربية ظهرت فيها اتجاهات متنوعة، والفرق بينها يرتبط بموضع الدين.
فالعلمانية ترى أهمية تنحية الدين من المجال العام، والعلمانية المعتدلة ترى أن الدين مكانه المجال الخاص، أما العلمانية المتطرفة فترى أهمية تنحية الدين حتى عن المجال الخاص.
ولهذا نقول إن بعض العلمانية لا تعادي الدين، والصحيح أنها لا تعادي وجود الدين في المجال الخاص أي الشخصي والفردي، وبعض العلمانية تعادي الدين، أي تحاول تنحية أي دور للدين حتى في المجال الخاص، أي الشخصي والفردي، ولكن كل العلمانية ترفض أي دور للدين في المجال العام.
أما العلمانية المحايدة، والمقصود بها العلمانية المحايدة تجاه الأديان، فهي التي تنحي الدين من المجال العام، وتسمح به في المجال الخاص، ولا تفرق بين أي دين وآخر.
وهنا نذكر ملحوظة مهمة، في الولايات المتحدة الأمريكية علمانية معتدلة، تقف على الحياد بين الأديان، حيث ينحى الدين من المجال العام تماما، ولكن يسمح به في المجال الخاص بكل حرية.
وهذا الوضع نتج عنه تمدد للدين متمثلا في حركة اليمين المسيحي، حتى أصبح ظاهرا في المجال العام ومؤثرا على المجال السياسي، ووصل ممثلون عن هذا التيار إلى البيت الأبيض، وهم جيمي كارتر ورونالد ريجان وجورج بوش الابن.
وهذا الأمر يعتبر بالنسبة للعلمانيين في أمريكا تهديدا للعلمانية، ويعتبر بالنسبة للمنتمين للتيار اليميني المسيحي، خطوة مهمة للقضاء على العلمانية؛ فالعلمانية بالنسبة للتيارات المسيحية، مثل اليمين المسيحي في أمريكا، والكنيسة الكاثوليكية، تمثل خطرا على المسيحية.
العلمنة ليست للسياسة فقط
ما حدث في أوروبا يمثل التجربة الأهم للعلمانية، حيث إن العلمانية لم تكن عميقة بالقدر نفسه في المجتمع الأمريكي؛ ولذلك متابعة التجربة الأوروبية مهم.
والعلمنة في الدول الأوروبية أقامت نظاما سياسيا علمانيا، ولكنها في الوقت نفسه أقامت نظاما اجتماعيا علمانيا، فكل قضايا الأسرة والزواج والطلاق، وكل الممارسات الاجتماعية العامة المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، تحكمها القيم العلمانية الغربية؛ لذلك من المهم والضروري تأكيد أن العلمانية ليست عملية علمنة للسياسة، بل لكل المجال العام بما فيه النظام السياسي والنظام الاجتماعي.
تلك القضية واضحة في النموذج الأمريكي، فأمريكا قامت أساسا على يد المتدينين الهاربين من دول أوروبا، وهي لذلك قامت على أسس دينية، ولكن النظام العلماني هو الذي سيطر عليها، بعد الحرب الأهلية الأمريكية، حيث انتصر الجناح العلماني وأسس الدولة.
ولكن الدولة الأمريكية تعطي مساحات كبيرة من الحرية لكل الأطراف، لأنها دولة متعددة الجذور أو ليس لها جذر واحد.
وهذا أدى إلى قيام تيار مسيحي عريض، وهذا التيار أصبح لديه مشكلة بسبب علمنة المجتمع الأمريكي، فأصبح يبني مجتمعا موازيا من المؤسسات الدينية الخاصة حتى يحمي أبناءه من علمانية المجتمع، وحتى يصل في النهاية لتحقيق مشروعه لإقامة دولة مسيحية في أمريكا.
الدينية...
ليست الدينية هي الحكم بالحق الإلهي، ولكن تلك كانت التجربة السلبية أو التجربة التي قامت على الاستبداد، في التجارب الدينية المتنوعة.
والمقصود بالدينية، هو عكس المقصود بالعلمانية، فإذا كانت العلمانية هي تنحية دور الدين عن المجال العام، فإن الدينية هي تأسيس المجال العام على الدين.
وتلك هي الخلاصة المهمة، ففي المشروع الديني، يقوم الدين بوصفه حجر الزاوية في النظام العام، وبهذا يتأسس النظام السياسي والنظام الاجتماعي على القيمة الدينية.
ويصبح المجال العام محفزا على تعظيم دور الدين في المجال الخاص، وغير مشجع لأي تنحية لدور الدين في المجال الخاص، وهنا تبرز أهمية الفرق بين العلمانية من جانب والدينية من الجانب الآخر، ففي الأولى يتم تنحية دور الدين عن المجال العام، وفي الثانية يتم تأسيس المجال العام على القيمة الدينية.
البعض يقول إن الإسلام ليس دينا ودولة، وعليه يقبل العلمانية كنظام سياسي واجتماعي.
والبعض يتصور المسيحية وكأنها دين روحي، وأنها ليست دينا ودولة، بل دين فقط.
ولكن السؤال يحتاج لمدخل آخر، فهل المقصود منه ما إذا كان الدين قد حدد نظاما سياسيا معينا، أم المقصود منه علاقة الدين بالمجال السياسي؟. وإذا عدنا للتجربة الأوروبية فسنجد أن العلمانية كانت ضد المسيحية، وأدت إلى انحسار المسيحية ودورها في أوروبا.
وإذا تابعنا معظم التيارات المسيحية الغربية، والتي لم تَذُبْ في العلمانية، وهي تمثل أغلبية مسيحي العالم، فسنجد أنها تعادي العلمانية وتعتبرها خطرا على المسيحية.
والسبب في ذلك بسيط، فإذا تم حصار الدين في الحياة الفردية والخاصة، فإن المجال العام سوف يتجه نحو مسارات لا توافق الدين، ويصبح مجالا مستقلا عن الدين. ومن هنا تبدأ القيم العلمانية في الانتشار داخل الأفراد أنفسهم، حتى يتم علمنة المجتمع بالكامل؛ لهذا نجد معظم الحركات المسيحية تحاول تحصين نفسها في مواجهة العلمانية، حتى تستعيد المسيحية مرة أخرى الغرب، وخاصة أوروبا.
وفي المقابل، لا نتصور دولة أغلبيتها تنتمي لدين ما، ويسود فيها الدين، ويقام فيها المجال السياسي بمنأى عن القيم الدينية، فإذا ساد الدين أصبحت قيمه هي العليا، ولهذا يصبح من الضروري بناء النظام السياسي والنظام الاجتماعي على هذه القيم، مادامت هي القيم السائدة لدى الأغلبية. نعني من هذا أن كل دين هو دين ودولة.
وعلمنة الإسلام، مثل علمنة المسيحية من قبله، هي محاولة لإخراج الإسلام من المجال العام وحصره في المجال الخاص، حتى يتآكل دوره تدريجيا، وتتم تنحيته حتى عن المجال الخاص. فعلمنة الدين، هي محاولة للقضاء عليه.
العلمانية أو الإسلامية
العلمانية إذن، معنية أساسا بدور الدين في الحياة، وهي تقوم على الفصل بين الدين والمجال العام، وتلك هي العلمانية المعتدلة أو الجزئية، والتي تجعل الدين شأنا خاصا وشخصيا وفرديا.
والعلمانية الشاملة أو المتطرفة، هي التي ترفض أن يكون للدين دور حتى في المجال الخاص، فتعمل على علمنة الحياة الخاصة والشخصية والفردية، والعلمانية بهذا تقوم على تأسيس النظام العام، أي الدستور والقوانين والنظام السياسي والاجتماعي، على قيم مصدرها العقل البشري، وليس لها أي إسناد في الدين، ولا يجوز تبريرها أو تفسيرها أو تحديدها من أي مصدر ديني.
والدينية في المقابل، هي جعل القيم الدينية أساسا للنظام العام، من الدستور إلى القوانين والنظام السياسي والاجتماعي، وبهذا فالإسلامية، هي مشروع حضاري مقاوم للعلمانية، لجعل القيم الإسلامية أساسا للنظام العام.
أما وجهات النظر التي تريد جعل العلمانية مصدرا لقيم النظام السياسي والإسلامية مصدرا لقيم النظام الاجتماعي، فهي رؤى متعارضة أساسا. فإذا قام الدستور والقوانين والنظام السياسي، على القيم العلمانية، واقتصرت المرجعية الإسلامية على النظام الاجتماعي والأسري، فإن هذا سيؤدي مع الوقت إلى توغل القيم العلمانية إلى النظام الاجتماعي، ليتم تحييد الدين في النطاق الخاص الشخصي.
والمتابع للتجربة الأوروبية والأمريكية، يكتشف أن العلمانية المعتدلة لم تؤدِّ إلى الحفاظ على دور الدين في الحياة الخاصة، بل تسربت العلمانية إلى الحياة الخاصة، وتراجع دور المسيحية في معظم أنحاء أوروبا، لذلك قامت حركات مسيحية، خاصة في أمريكا، تحارب العلمانية حفاظا على المسيحية.
لهذا نقول إن العلمانية تبدأ معتدلة وتنتهي متطرفة، وتبدأ غير معادية للدين ولكن تحصره في المجال الخاص فقط، وتمنعه من التأثير على المجال العام، وتنتهي بمعاداة الدين؛ لأن تعمق التدين في الحياة الخاصة للأفراد يؤثر على المجال العام بصورة أو أخرى، كما أن العلمنة المادية الشديدة للحياة العامة تتعارض مع الدين، وبالتالي تؤثر سلبا على التدين الشخصي حتى تقضي عليه.
لهذا فبين المشروع العلماني والمشروع الإسلامي، تعارض يمنع اللقاء أو التوفيق.
-----------------------
كاتب وباحث مصري مهتم بالشئون الإسلامية


الثلاثاء. أكتوبر. 14, 2008
إسلام أون لاين.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.