خلفيات الفشل اللبناني حصل المحظورالأمني في الأحد الأسود ببيروت على نحو يصعب معه عزله ما شهدته ضواحي العاصمة امتدادا إلى الجنوب و البقاع الشمالي عما شهده اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في القاهرة يوم 27 يناير الماضي.وقد بدا هذا الانفجاربوصفه إحدى أسوأ جولات العنف الداخلي منذ أحداث الجامعة العربية قبل سنة تماما، نذيرا بمزيد من الفرز والاستقطاب المذهبي، وهو عادة ما يلازم بداية الحرب الأهلية على خلفية أزمة سياسية بنيوية استعصت على حلها كل الوساطات و المبادرات، فجاءت حصيلتها المفجعة و المفاجأة في جسامتها لتعكس المخاوف في ظل انحلال الإجماع اللفظي حول المبادرة العربيّة وجهود عمرو موسى التي باتت المعارضة تعتبره طرفاً منحازاً، وكذلك الأمر حول ترشيح ميشال سليمان، قائد الجيش، للرئاسة، الذي تعرض لهجوم متفاوت النبرة من بعض قوى المعارضة، بحجة الدماء التي سالت ، و أخيرا و ليس آخرا الإجماع اللفظيّ حول الجيش نفسه الذي استهدفت الاغتيالات الأخيرة قادة منه ، و الذي زج به في مواجهة مع أهله على خلفية الأزمة السياسية و الرئاسية.. وماجرى في ساحة تقاطع كنيسة مار مخايل – الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت، من المحتجين على انقطاع الكهرباء، هو بروفة أولية للحرب الأهلية اللبنانية المحتمة في ظل استمرارعناصر التأزم السياسي الذي يعيشه لبنان بفعل مأزق الفراغ الرئاسي والخلاف على تشكيل حكومة وحدة وطنية، و لاسيما أن الأوساط السياسية والمراقبة اتفقت على ان الاستنتاج الأساسي (بين استنتاجات من اليوم الدموي) هو أن نتائج المواجهات أتاحت توجيه سهام الاتهام إلى الجيش وقيادته، وإضعاف ترشيح قائده العماد سليمان للرئاسة الأولى. العجز اللبناني ليس منفصلا عن الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام الطائفي اللبناني الذي أصبح مولدا للحروب الأهلية الدورية ، في ظل غياب بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.ومنذ نشأته في النظام الدولي لعام 1840، ظل لبنان بلدا هشّاً و معقداً.فهو كيان عازل بين كل الطموحات المتناقضة في الشرق الأوسط،.وعاش لبنان طيلة مرحلة القرن العشرين و لا يزال صراعا بين القومية العربية و القومية اللبنانية . و كانت الساحة الأساسية للقومية اللبنانية هي تلك المناطق ذات الغالبية المارونية في جبل لبنان ، بينما كانت الساحة الأساسية للقومية العربية هي المدن التابعة لولايات سوريا و بيروت و حلب السابقة. لقد تشكل لبنان تاريخيا على النحو الذي نعرفه حاليا " لبنان الكبير" بضم " لبنان الصغير" أو جبل لبنان، " الولاية العثمانية القديمة ذات الحكم الذاتي" بغلبة مارونية، إضافة إليه ثلاث مناطق مأهولة من المسلمين و منفصلة عن سورية (التي كانت تسمى بلاد الشام في ذلك العهد) و هي:منطقة طرابلس في الشمال، السنية أساسا ، و لكنها تتضمن كذلك جيوبا مسيحية مهمة، و البقاع المأهول من فلاحين شيعة و كبار ملاكين مسيحيين ، و أخيرا في الجنوب المناطق الدرزية و الشيعية،في ظل الإنتداب الفرنسي في 14 أيلول/سبتمبر 1920. ولقد حاول النظام الطائفي اللبناني أن يزاوج بين الليبرالية الغربية الكلاسيكية وبين تراث محلي قائم على تعدد الطوائف، إلا أنه لم يستطع أن يؤسس دولة المواطنين، وبالتالي يؤسس ديمقراطية برلمانية حقيقية، تسهم جديا وفعليا في تحديث المجتمع. لأن الدولة الطائفية التي تهيمن فيها طائفة معينة، ويتحكم في فلسفتها السياسية فكر طائفي، لا يمكن لها أن تقيم توازنا بين الطوائف. وفي ظل إخفاق الطبقة السياسية اللبنانية على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية والثقافية على خلق أحزاب سياسية تتخطى الفروقات المذهبية/الطائفية مما يشجع على مشاركة شعبية في العملية السياسية ، أصبح لبنان البؤرة النموذجية بامتياز لممارسة لعبة الكر و الفر، يتبارى فيها جميع الأطراف المحلية و الإقليمية و الدولية. في ظل هذا الواقع المرير، بدأ بعض المنظرين اللبنانيين الذين يؤيدون فكرة تحرير لبنان من نظام الدولة الحاجزة في منطقة الشرق الأوسط، يشترطون على هذا البلد أن يتمتع بنظام مشابه للنظام الذي كانت النمسا تتمتع به عقب نهاية الحرب العالمية الثانية: الحيادية المعترف بها من قبل جيرانه، مع إبقاء لبنان على هويته العربية، ودوره الفاعل في الجامعة العربية. هناك حقيقي يسعى إلى إعادة فرض قيم المجتمع المدني الحديث و السوق على جهاز الدولة وقيم المجتمع العسكري والأمني. ذلك أن اللبنانيين في مجموعهم يشكلون مجتمع السوق مع ما يستتبعه من قيم ميركانتيلية مدفوعة نسبيا. فهو مجتمع ميركانتيلي وليبرالي ، منفتح ، و متعدد، و لكنه أيضا هو مجتمع من دون أحزاب سياسية قوية، حيث تبدو القناعات الإيديولوجية و السياسية فيه أقل أهمية من المصالح. و على الرغم من أن الشباب اللبناني يعاني كثيرا من هذا المجتمع الميركانتيلي ، مستفيدا من إيجابياته في الوقت عينه ، إلا أننا نجده يجسد إنفتاحا إستثنائيا على تكنولوجيات الإتصال الحديثة. و لكن هذا المجتمع ، و بسبب مشروع الإستيلاد،أضطر لتحمل نظام آخر من القيم و جهاز دولة ينخره الفساد الذي لا يتوافق مع المجتمع الميركانتيلي، لأنه يمتلك رؤية دولتية في الفلسفة السياسية، نصيرة للإقتصاد الموجه، و تسلطية في إدارتها للحكومة. و مع خروج القوات السورية من لبنان،لا يزال حزب الله يمتلك الورقة الرئيسة في المشهد السياسي اللبناني،حيث أكسبته مقاومته المسلحة ضد الكيان الصهيوني شرعية سياسية وتاريخية في لبنان قل نظيرها. وفي الوقت الذي تأكد فيه أن حزب الله قد بلغ مرحلة النضج في إدارة عمله السياسي ، وأصبح يقدم نموذجا من البراغماتية يتجاوز الى حد كبير النموذج الذي عرفته الساحة اللبنانية من أحزاب اليمين واليسار العقائدية ، جاءت التحولات الدولية والإقليمية لتعمق من خط لبننة الحزب ، بصرف النظر عن تحالفاته الإقليمية. وأثبت تاريخ لبنان الحديث أنه يصبح من الخطأ ، والخطر أن تطرح جهة ما ، أو حركة ما ، أو حزب ما أو طائفة ما ، أو حزب في طائفة ما ، أو تحالف بين أحزاب في طوائف ما، أو تحالف أو تقاطع أو توافق مؤقت بين أحزاب من منظور شمولي ، ومنظور شمولي آخر ، نقيض لمن توافق معه أو أتفق ، أن تطرح مشروعاً سياسياً يقطع مع النظام اللبناني دفعة واحدة بمقتضى الرعونة والاستعجال وضعف البصر والبصيرة ، أو تدريجياً وتدرجاً ، لأنها سوف تضطر بعد حين الى التراجع والبحث عن موقع ولو في عب النظام أو قرب ساقه . . . عندما نكشف قوة هذا النظام واستحالته . فكل المحاولات التي تنطحت لمثل هذا التغيير أخفقت ، نذكر على سبيل المثال محاولتي 1958، و 1975. ومن الواضح تاريخياً في لبنان أن كل " مشروع طائفي " يمكن أن يصعد في مرحلة تاريخية معينة ، ويطرح عملية التغيير في أصول النظام اللبناني مستفيداً من ضعف الدولة اللبنانية واستضعافها ، وقصورها وتقصيرها في كثير من الحالات ، هذا هو حال مشروع القوات اللبنانية وأصلها الكتائبي عندما أقنعت نفسها ببناء المجتمع المسيحي الصافي ، قبل أن تواجه بعد فترة مأزقاً كبيراً ، وتتساقط حين كشف حاميها غطاءه ، وكذلك الأمر بالنسبة لسقوط مشروع الفيدرالية أو الكونفدرالية بعد أن سقط حلم الحركة الوطنية اليسارية التي أقامت دولة موازية للدولة اللبنانية الأم ، محمية بالمقاومة الفلسطينية قومياً . أما بالنسبة لحزب الله الذي طرح مشروع الجمهورية الإسلامية ، فقد كان أكثر احتياطاً لمشروعه هذا من غيره من الأحزاب التي قدمت مشاريع طائفية ، ولعله قرأ كل الدروس واستخلص كل العبر ، لجهة تحديد خياره في نطاق اللبننة ، لكي يكون جزءا من مشروع لبناني كبير ، حتى لا يخسر رهان الكثيرين المتعاطفين معه على ايجابياته . لاشك أن التناقضات اللبنانية الداخلية هي مولدة بدورها لتناقضات جديدة في سياق سيرورتها، وهي متحولة أيضاً في مواقعها بسبب تطور هذه المتناقضات في المجتمع اللبناني، حيث يعمل، أحزاب وقوى سياسية، ومكونات للمجتمع المدني، وطبقات لها وعيها ورؤيتها، ويسعون وراء أهدافهم. فالتناقض الاقتصادي قد يبرز في شروط معينه كتناقض رئيسي، لكنه يصبح في شروط أخرى غير رئيسي. وفي مرحلة تاريخية معينة أصبح التناقض الطائفي هو التناقض الاساس الذي يحدد جميع التناقضات الأخرى التي هي مشتقة منه لذلك، علينا أن نميز بين التناقض الرئيسي وغير الرئيسي، لاعطاء السمة الصحيحة لمختلف مراحل وفترات عملية التطور للمجتمع المدني اللبناني الحديث. الصراع العربي الإسرائيلي كما أن التناقض القومي تأزم وتفجر بدوره منذ نكبة فلسطين وتأسيس الكيان الصهيوني في العام 1948، حيث أصبحت قضية فلسطين قضية لبنانية، بسبب اطماع الكيان الصهيوني في المياه اللبنانية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في العام 1965، وانتقال حركة المقاومة الفلسطينية من الأردن بعد مجزرة أيلول الأسود العام 1970 إلى لبنان، وتنامي التلاحم الكفاحي في المعركة القومية بين فصائل الحركة الوطنية اللبنانية وكافة فصائل المقاومة الفلسطينية، حيث بدأ نجم المقاومة الفلسطينية المسلحة أو العمل الفدائي يتصاعد في فضاء السياسة العربية بعد هزيمة حزيران 1967. ثم يعد خروج منظمة التحرير من بيروت عقب الغزو الصهيوني للبنان عام 1982, و توقيع إتفاق الطائف عام 1990, و الإسقاطات المدمرة لحرب الخليج الثانية على الأمة العربية و ما استتبع ذلك من مبادرة السلام في مدريد , أصبح الوجود السوري في لبنان موضوع إنتقاد من جانب بعض القوى اللبنانية . لم تكن" الحداثة " اللبنانية إذن سوى مظهر براق خادع يعزي إليه بشيء من الاستسهال، استقرار البلد والديمقراطية الظاهرية لمؤسساته. وهذا فيما يشهد العالم منذ نهاية الحرب الباردة ، تقلبات متلاحقة في عملية تحول الدول في عالم الجنوب باتجاه بناء دولة الحق و القانون بالتلازم مع بناء المجتمع المدني الحديث. العجز العربي أما العجز العربي ، فهو نابع من طبيعة النظام الرسمي العربي بدوله مجتمعة ومنفردة ،الذي لا يملك التماسك الوطني اللازم ،وتهيمن عليه عقلية التنافر والارتباط ، وانتهاك حقوق المواطن ، والعبث بالمصالح القومية، وتحكمه طبقات سياسية متخلفة تفتقر آلي العقلانية السياسية ، وتلجأ آلي وسائل وأساليب متخلفة في قمع الشعب والتعامل مع الدول المجاورة ، وفي معالجة كل القضايا المحلية والقومية والدولية . وفضلا عن ذلك ، لما كانت هذه الطبقات الحاكمة مرتبطة بالسوق الرأسمالية العالمية ، فأنها ليست مستعدة في الأعم الأغلب رفض اسباب السيطرة الأميركية ، والعودة إلى الشعب . ولما بات النظام الرسمي العربي عاجزاعلى حل مشاكله ، داخل أطره ، وعلى اتخاذ قرارات من الوزن الثقيل أو اتخاذ مواقف صارمة تحقق مصالح هذا القطر أو ذاك، وسواء أكانت اجتماعات مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية طارئة استثنائية أم دورية اعتيادية، فإن الخلافات بين الأقطار العربية تظل قائمة ما يفضي بكل اجتماع إلى حلول توافقية تفتقد الآليات التي تكفل تحقيقها. ولذلك عجزت مؤسسة الجامعة العربية عن معالجة مشكلة الغزوالعراقي للكويت معالجة عربية ،وعجزت عن معالجة الأزمة السياسية اللبنانية الأخيرة ، وكذالك الأمر فيما يتعلق بحصار غزة، فانقسمت كما هو شأنها عادة ، وفي كل القضايا الكبرى ، وحتى الصغرى . وفي مثل هذه الحالة ، من العجز العربي ، يصبح التدويل للقضايا العربية ، هوالملجأ ، وهو الملاذ لحفظ السلطة ولضمان المصالح العليا لمعظم الطبقات السياسية العربية الحاكمة ، ومعها حواشيها بالطبع ، التي تلتزم بتدويل القضايا المحلية بدلامن أن تعمل لتحرير إرادتها و"أراضيها " من سيطرة القرار الدولي ، الذي حرم جماهير العالم العربي و " دوله " المستقلة من كل إرادة . كاتب من تونس