الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استعادة شاعر الإقدام أبي القاسم الشابي بعد اختطافه سبعة عقود
نشر في الوسط التونسية يوم 14 - 04 - 2006

حفظ القرآن و هو ابن تسع سنوات ، و أدى دوره في مقارعة الظالمين و الطغاة بروح رسالية واضحة
عبدالباقي خليفة-الوسط التونسية
ظل الشاعر أبوالقاسم الشابي دهرا طويلا مختطفا من قبل العالمانيين، ومن خلال تقديمه كأحد رموزهم ورجالاتهم،كما أن البعض، انطلاقا من ذاك التقديم، عابوا على الشابي بعض المخالفات العقائدية وبعض التلفيقات التي دست في ديوانه " أغاني الحياة" لتنفير الاسلاميين منه، وجعله شاعرا حداثيا صرفا، وهوما يتعارض وثقافة الشابي، نشأته الدينية ، ودراسته في الزيتونة، بل سمت شعره الخالي من الفحش الخلقي والأدبي.
نشأة الشابي : ولد أبوالقاسم الشابي- رحمه الله - في مدينة الشابة،( وليست " الشابية " كما ذهب إلى ذلك بعض من يتناولونه في مقالاتهم أوتعليقاتهم المختلفة ) عام 1909 أي بعد 28 سنة من الاحتلال الفرنسي لتونس( 1881 - ... ) (1) ويعود الشابي في نسبه إلى عائلة متدينة معروفة بالعلم والصلاح، فوالده الشيخ محمد بن بلقاسم الشابي من خريجي الازهر الشريف، وجامع الزيتونة . تولى القضاء في عدة أماكن بتونس . وقد لزم أبوالقاسم والده في حله وترحاله، واستفاد من علمه مدة 20 سنة حيث توفي والده سنة 1929 .
وأبوالقاسم الشابي من حفظة كتاب الله تعالى حيث أكمل حفظ القرآن وهوابن التاسعة، ومما يدل على اهتمام والده بتربيته فرحه الشديد بإكماله حفظ القرآن . وقد عكف على تعليمه علوم العربية وفنونها والدراسات الاسلامية وأنفعها، وكان والده يشجعه على القراءة ودراسة الكتب الاسلامية. وكان شاعرنا الشابي منسجما مع توجهات والده الفكرية حيث التحق بجامع الزيتونة، وتخرج بعد 9 سنوات من التحصيل العلمي الشرعي . وخلاف ما ذهب إليه البعض فإن نبوغ أبي القاسم الشابي الشعري لم يكن مخالفا لتوجهات أبيه، بل إن والده هو من فتح عينيه على دواوين الشعر والشعراء عبر العصور، حيث كان لوالده مكتبة زاخرة بمختلف العلوم . ولم يكن الشعر بعيدا عن الدراسات العربية والاسلامية الشرعية، فهو يستشهد به من فوق المنابر، وتروي كتب السير الكثير عن الصحابي الجليل حسان بن ثابت، وفي الحديث " إن من الشعر لحكمة " . وكلها تدحض تخرصات البعض حول رفض والده نظم الشعر أو نفوره منه . وليس أدل على ذلك من أن الشابي بدأ كتابة الشعر وهو ابن الخامسة عشرة.
شاعر الشعب :
لم يكن أبوالقاسم الشابي شاعر ترف أوسلطان بل كان شاعر الشعب والامة، يتألم لما يلم بها، ويستنهض هممها للمعالي . ولم يخرج الشابي -كما يريد البعض أن يوهم من خلال الدس- عن رسالية الشعر . وهدفهم تحويل الانظار عن مضامين شعر الشابي الذي يعد شعرا اسلاميا خالصا بما يدعو إليه، وبما يحمله من أفكار إذا تمت تنقيته من بعض المدسوسات التي أضيفت إليه بعد وفاة الرجل رحمه الله . وليس الشابي أول من يُدَسّ عليه ما لم يقله، بل نعرف فقهاء وعلماء مشهوداً لهم بالعلم والورع دُست عليهم كتب وليس مجرد قصيدة أو بيت شعر؛ فابن القيم -رحمه الله- تعرض لمثل هذا الدس.
وقد حاول بعض المدلسين أن يحسب الشابي على دعاة العالمانية كما ذكرنا سالفا معتبرين إياه من المتغربين، وبشكل فج يكشف عن مقدار كبير من التجني على الرجل وعلى الحقيقة والامانة العلمية . ولزيادة حدة التعمية زعموا أن موقف الشابي من الصراع بين الاصالة والتغريب، كان إلى جانب الثاني، وزيادة في التعمية قالوا أنه اتخذ موقفه ذاك دون التجني على ما أسموه "الثقافة السلفية " مع الكثير من الغمز الذي نعرفه من أخازم قومنا . ومن سوء حظهم وشدة بؤسهم، وهم يحاولون اختطاف الشابي، أن يسقطوا أكثر من مرة، وهم يحاولون النجاح في امتحان التزوير، عندما يؤكدون أن الشابي " قرأ ما كتبته مدرسة الديوان في هذا الصدد وبخاصة ما كتبه العقاد عن مفهوم الشعر وطبيعة العمل الشعري ووظيفته " ومعروف أن العقاد ليس محسوبا على تيار العالمانية المتطرفة (وإن كانت عليه بعض الملاحظات ) التي عبر عنها بسفور طه حسين ولطفي السيد وغيرهم . كما أن القول إن الشابي تأثر كثيرا بجبران خليل جبران قول ينقصه الدليل، فالشعر الحداثي لا يعترف بمفهوم ولا وظيفة للشعر، كما أن الشابي يتفق مع رؤية العقاد للشعر، في الوقت الذي لا نجد في شعره ما يدل على تأثره بطريقة جبران خليل جبران . لقد استخدم البعض أسلوب الارهاب الفكري عندما أطلقوا على الثقافة الاسلامية اسم الثقافة السلفية، وعلى التغريب لقب الثقافة العصرية . وكذبوا عندما اعتبروا الشابي واحدا منهم ومنحازا لثقافتهم، وليس هذا مراءً مع سفاء، بل استنادا لشعر الشابي نفسه .
لقد واجه الشابي خمول الناس وقعودهم عن مقارعة الاحتلال الفرنسي واستسلامهم له في حين كان دعاة التغريب يعتبرون الاحتلال صمام أمان أمام حرب أهلية، وعاملاً من عوامل التقدم والتطوير، وهو ما يقوله اليوم ليبراليوهم، دعاة الخضوع للاحتلال الامريكي للعراق، والسرطان اليهودي في فلسطين . وهذا ما لم يقله الشابي البتة، فكيف ينسبونه إليه إذاً ؟! لقد كان الشابي ينادي بالثورة في وجه المحتل، وهم يعتبرون ذلك ارهابا، وينادي بالتحلي بالقيم الاسلامية، وهم يعتبرونها عائقا في وجه أسيادهم المحررين، وهي التي عمل الاحتلال الفرنسي -ككل احتلال غربي - على تقويضها بكافة الأشكال، من خلال إشاعة ثقافة الانحلال، وقدم الخروج عن الاسلام بأنه تقدم وعصرنة وحداثة، ورمى الاسلام بتهم التخلف وغير ذلك، وذلك لاعتقاده بأن عودة الناس للاسلام ستقضي على استغلاله لاراضيهم، وحاضرهم ومصائرهم . ولذلك كانت أعين الاحتلال الفرنسي وشرطته واستخباراته تلاحق كل عالم وكل داعية ومفكر اسلامي، كما عمل على تصفية المقاومة الاسلامية التي مثلها الشيخ عبدالعزيز الثعالبي ليفسح المجال أمام ابنه البار الحبيب بورقيبة، ومن على شاكلته.وإذا نظرنا إلى تاريخ الاحتلال ندرك حقيقة ما كان يعمل له ذلك الاحتلال، من ترسيخ لمعتقداته السياسية والثقافية لتصبح بلداننا صورة مشوهة لما يعيشه ثقافيا، وجهاز استقبال سياسي لآرائه وأوامره فقط . وقد حاول المتغربون من باب (رمتني بدائها وانسلت) أن يوهموا الناس أن الاحتلال كان يريد " تشجيع الهياكل الثقافية التقليدية، والحيلولة دون قيام أي حركة ( تنويرية ) أو محاولة اصلاح ( مستنيرة ) " . بتعبير آخر:إيهام الناس بأن المحتل لا يريد أن ينشر ثقافته ليحتل عقول الناس بعد احتلال أراضيهم . ولكن ذلك التضليل وتلك التوهمات والايهامات لم تعد تقنع أحدا حاليا، بعد أن أدركت الامة العدو الحقيقي للاحتلال والهيمنة الاجنبية والعائق الوحيد أمام الاستكبار العالمي اليوم .
وعودة للشابي فإن الذين اختطفوه من عالمه الاسلامي الرحب، ثقافة وفكرا ، لم يستطيعوا إخفاء دوره في حركة الشبان المسلمين وهو لا يزال طالبا بالزيتونة فيمرون على تلك الفترة مروراللئام( 2).
شعر أبي القاسم الشابي :
في قصيدة " شعري " يرسم أبوالقاسم الشابي سمات شعره وأهدافه بكل وضوح، وهو ما يتنافى وتعريف التغربيين للشعرفيقول.
ما الشعر إلا فضاء يرف فيه مقالي
فيما يسر بلادي وما يسر المعالي
وما يثير شعوري من خافقات خيالي
ويسمو أبوالقاسم الشابي بشعره من أن يكون تملقا للأمير، أو طلبا لحطام، بل هو جزء من هويته وشخصيته وحياته :
لا أنظم الشعر أرجو به رضاء الامير
بمدحه أو رثاء تهدى لرب السرير
حسبي إذا قلت شعرا أن يرتضيه ضميري
ثم يخاطب الشعر :
يا شعر أنت ملاكي
وطارفي وتلادي
أنا إليك مراد
وأنت نعم مرادي
قف لا تدعني وحيدا
ولا أدعك تنادي
فهل وجدت حساما
يناط دون نجاد؟
وفي قصيدة " الصيحة " يحدد أبوالقاسم الشابي موقفه من مجد الأمة وتراثها العريق، بما يخالف نظرة التغربيين لتراث الامة العظيم ومجدها الغابر، بل يخاطبهم قائلا :
ياقوم ما لي أراكم
قطنتم الجهل دارا
أضعتم مجد قوم
سادوا الحياة فخارا
أبقوا سماء المعالي
بما أضاؤوا منارا
حاكوا لكم ثوب عز
خلعتموه احتقارا
ثم ارتديتم
لبوس خزي وعارا
ويصف ما يولولون به بكلمات ذات وقع شديد:
يا قوم عيني شامت
للجهل في الجو نارا
تتلو سحابا ركاما
يتلو قتاما مثارا
يثير في الارض ريحا
يهيج فيها غبارا
الحياة عند أبي القاسم الشابي :
في قصيدته " نظرة في الحياة " يحذر الشابي من الركون للضعف، ويشيد بالقوة، ويدعو لليقظة والفطنة، ويؤكد أن الروح الوثابة لا تطفئها المتاعب والاكراهات:
إن الحياة صراع
فيها الضعيف يداس
ما فاز في ماضغيها إلا شديد المراس
للخبء فيها شجو
فكن فتى الاحتراس
ثم يقول :
من السكينة روح
في الليل ليست تضام
والروح شعلة نور
من فوق كل نظام
لا تنظفئ برياح
الارهاق أو بالحسام
حتى يقول:
والذل سبة عارا
يرتضيه الكرام
إلا أنه من المؤكد أن قصيدة " الحياة " التي لا تزيد على ثلاثة أبيات، هي من المدسوسات على الشابي وديوانه، فالرجل الذي تربى في بيت علم وفضل ودرس الشريعة وتخرج من الزيتونة في عز نهضتها، لا يمكن أن يقول كلاما كالذي نسب إليه في تلك القصيدة، إضافة إلى أن طريقة نظمها تختلف عن أسلوب الشابي، فهي ركيكة اللفظ والمعنى، كما أنها تختلف عن رؤيته لحركة الحياة في بقية قصائده وأبياته المشهورة . إضافة وهذا من الأهمية بمكان أنها خلت من أي مقدمة، وهذا ما نلاحظه في قصائد قليلة جدا من ديوانه، ليست من نظمه وإنما دست عليه . وكما نعلم جميعا فإن ديوان الشابي لم يُجمع إلا بعد وفاته، وكان ينشر قصائده في جريدة النهضة، وقد اختلطت بعض القصائد الاخرى لشعراء آخرين لم يشتهروا مثل الشابي مع قصائده . والقصائد الوحيدة التي يمكن أن تنسب للشابي هي التي لا تزال مكتوبة بخط يده . وقد عاب الكثيرون من النقاد المسلمين على الشابي ذلك البيت الرائع الذي يقول فيه:
" إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر "
بما أن القدر يستجاب له ولا يستجيب لأحد. وقد استلهم الشابي قوله حسبما أفهمه من قوله تعالى (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وقوله سبحانه ( لا أضيع عمل عامل منكم) وقوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لو تعلقت همة المرء لما وراء العرش لناله " وسواء أصاب أبوالقاسم الشابي أو أخطا في ذلك، هو ومن حاول تفهم شعره، فعلينا أن ندرك أن الرجل اجتهد، وايمانه بالقدر يجبّ ما تصوره عنه إن كان قد أخطأ فعلا . وليس الشابي أول من يجتهد فيصيب ويخطئ . ولا يستحق الشابي كل ذلك التشنيع على قول لم يقله، أو قول اجتهد فيه. وفي قصيدة " غرفة من يم " يبدع الشابي في تصوير الهمم وكأنه يباري المتنبي في قوله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وعلى قدر أهل الكرم تأتي المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
فيقول:
ضعف العزيمة لحد في سكينته
تقضي الحياة بناه اليأس والوجل
وفي العزيمة قوات مسخرة
يخر دون مداها الشامخ الجبل
والناس شخصان : ذا يسعى به قدم
من القنوط وذا يسعى به الامل
ويقول:
فالدهر منتعل بالنار ملتحف
بالهول، والويل، والايام تشتعل
والارض دامية، بالإثم طامية
ومارد الشر في أرجائها ثمل
ولا يتوقف الشابي عند الحديث عن الواقع، بل يستشرف الامل في المستقبل :
ولكن سيأتي بعد لأي نشورها
وينبثق اليوم الذي يترنم
هو الحق يغفي ثم ينهض ساخطا
فيهدم ما شاد الظلام ويحطم
غدا الروع، إن هب الضعيف ببأسه
ستعلم من منا سيجرفه الدم
دفاع الشابي عن الفضيلة :
في قصيدته " أبناء الشيطان " يقول الشابي:
كم فتاة جميلة مدحوها
وتغنوا بها كي يسقطوها
فإذا صانت الفضيلة عابوها
وإذا باعت الخنا عبدوها
وفي قصيدة " يا حماة الدين " يقول الشابي:
لقد نام أهل العلم نوما مغنطسا
فلم يسمعوا ما رددته العوالم
ولكن صوتا صارخا متصاعد
من الروح يدري منه المتصامم
سيوقظ منهم كل من هو نائم
وينطق منهم كل من هو واجم
ثم يقول وكأنه يعيش بيننا أيامنا:
سكتم حماة الدين ! سكتة واجم
ونمتم بملء الجفن والسيل داهم
سكتم، وقد شمتم ظلاما، غضونه
علائم كفر ثائر ومعالم
مواكب إلحاد وراء سكوتكم
تضج، وها إن الفضاء مآثم
ويدعو العلماء ليمارسوا دورهم في المجتمع:
أفيقوا فليل النوم ولى شبابه
ولاحت لآراء الصباح علائم
فدون ضجيج الفاسقين سكينة
هي الموت، مما أورثته التمائم
عوائد تحيي في البلاد نوائبا
تقدّ قوام الدين والدين قائم
وبحرقة الشاعر المسلم الرسالي يواصل الشابي نداءه حتى اليوم:
أفيقوا، وهبوا هبة ضيغمية
ولا تحجموا، فالموت في الجبن جاثم
فقد فت في زند الديانة معشر
أثاروا على الاسلام من قد يهاجم
لحى الله من لم تستثره حمية
على دينه إن داهمته العظائم
لحى الله قوما، لم يبالوا بأسهُمٍ
يصوبها نحو الديانة ظالم
أما وقوف الشابي إلى جانب الطاهر الحداد في قضية المرأة فلم يكن موقفا ضد ما علم من الدين بالضرورة، بل في حدود يستوعبها الشرع الحنيف، وفي إطاره . وقد كان ذلك في حياة والده العالم الفقيه -رحمه الله- فلم يعيبه، ولم يشنع عليه، مما يؤكد ما ذهبنا إليه .
الشابي عدو الطواغيت :
وكأي شاعر مؤمن لا يخفي أبوالقاسم الشابي حزنه وكآبته من أوضاع شعبه وأمته، بل يعتبر حزنه فريدا وغريبا في عوالم الحزن.
كآبتي شعلة مؤججة
تحت رماد الكون تستعر
سيعلم الكون ما حقيقتها
ويطلع الفجر يوم تنفجر
وعندما يعلن الشاعر الاستسلام الظاهري بعد النداء، فلا يعني ذلك سوى استمرار النداء، رغم ما يبدو من خيبة أمل:
لما ناديت ولم ينفع
وناديت أمتي فلم تسمع
رجعت بحزني إلى وحدتي
ورددت نوحي على مسمعي
وعانقت في وحدتي لوعتي
وقلت لنفسي " ألا فاسكتي "
ولم يكن أمر السكوت سوى مرحلة جديدة من الحوار الداخلي والأمل:
يا قلب لا تسخط على الايام فالزهر البديع
يصغي لصيحات العواصف قبل أنغام الربيع
وفي شعر الشابي فلسفة عميقة لم يتفطن لها النقاد الذين تعاملوا معه كشاعر، ولم ينظروا إلى فلسفته الشعرية ونظرته للكون والحياة والانسان، التي أزعم أنها تجسد عواطف المسلم وموقفه من قضايا عصره . وفي قصيدته " إلى الطاغية " وكأنه يقصد طاغية اليوم التي يجسد فيها حزنه، وينتفض فيها، بعد أن يلقي بقفازاته:
لك الويل يا صرح المظالم من غد
إذا نهض المستضعفون وصمموا
إذا حطم المستعبدون قيودهم
وصبوا حميم السخط أيان تعلم
أغرك أن الشعب مغمض على قذى
وأن القضاء الرحب وسنان مظلم
ألا إن أحلام البلاد دفينة
تجمجم في أعماقها ما تجمجم
ومن البلية أن نسمع في أيامنا الحبلى هذه، من يقول أنه يعيش في عصر غير عصر الشابي، وهو لا يعلم (بالتأكيد ) أن الشعر والثقافة عموما عابران للتاريخ وللعصور، فلا زالت المعلقات تدرس وتترجم للغات العالم، ولا يزال فلاسفة وحكماء مثل بيدباء وسقراط الذي " يحيا " كما يقال ، كلما ظهر فيلسوف جديد . وتلميذه أفلاطون الذي قال عنه الفيلسوف الانجليزي المعاصر وايتهيد:" الفلسفة منذ 2500 عام ليست إلا تعليقا على مؤلفات أفلاطون " . لكن المعقدين من الماضي دون القدرة على صنع شيء يهذون بما لا يعلمون . وقد اعترض نيتشه على أفلاطون لكنه مات مجنونا . وكلاهما عاش ومات كما كان يتصور . وإن شاء الله تكون لنا وقفات أخرى مع الشابي لنستكمل اكتشاف شخصيته الحقيقية التي أخفاها البعض ردحا طويلا، وخطفها البعض ردحا طويلا، وعندما تغيرت الولاءات، عملوا على دفنها للأبد .
الهوامش:(1) إلا أن القوات الفرنسية خرجت من تونس سنة 1956 بينما بقي الاحتلال السياسي والثقافي جاثما حتى اليوم . (2) البعض بدأ يتجاهل الشابي بعد مرحلة القطع مع ( موضة الثورة ) والتماهي مع الغزو الغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.