يعتقد الكثير، عن حسن نية طبعا، أن النهضة والإخوان انتهوا واندثروا من تونس ومصر، بمجرّد ما آل الحكم لسعيّد والسّيسي بالطّريقة التي نعلمها جميعا ونختلف في تسميتها حسب اصطفافنا معها أو ضدّها. والغريب أنّ أحدا لم يتساءل لماذا يصمت جماعة النهضة على من يقول باندثارها، ولماذا لا يتصدّون لهم بالشّراسة المعهودة، خاصّة وهم يتحوّزون على آلة مشبّكة من المواقع والصفحات والحيطان قلّما توفّرت لأحد مثلهم؟ يا جماعة، هل تظنّون أنّ صادق شورو والحبيب اللّوز ورضا الجوادي وسعيد الجزيري وذلك الإمام الذي قال أن دم نجيب الشّابي وشكرس بلعيد مطلوب في جرجيس وغيرهم كثير من المنادين بالخلافة وتطبيق الشريعة وإعمال الحدود من جَلد ورَجم وقتل وصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، هل تظنّون أنّ النّهضة نبذتهم بمجرّد ذلك الإدّعاء السّخيف "بفصل السياسي عن الدّعوي"؟ أبدا، النهضة لن تندثر هكذا، والتنظيم العالمي للإخوان المجرمين الذي صمد أمام الإعتقالات والإضطهاد والسجون والإعدامات طيلة عشريات، لن ينسحب بهذه السّهولة من موقع طالما سعى لاكتساحه مقابل خسائر جسيمة، بمجرد إلقاء سعيّد لبيان 25، أو لتدابيره التالية. هو تنظيم سرّي محكم، وما نراه منه من حزب ومجلس شورى ومكتب تنفيذي، كل ذلك ليس إلا الجانب العائم من الجبل الجليدي، مجعول للاستهلاك من طرف اساطين الغرب، الحليف المتواطئ، وأذنابه في تونس وفي العالم العربي. وما جوهر بن مبارك، أو بوعجيلة، أوالشابِّييْن: نحيب وعصام، أو مصطفى بن جعفر، أو السبسي والشاهد وجميع الأحزاب التي تسارعت لحني ظهورها ركوبة للغنّوشي وعصابته، إلّا البعض من أولئك الأذناب. أمّا الجزء الغائص من جبل الجليد فهو هنا، مازال متربصا بتونس وشعبها، ولن يهدأ له بال حتى يراها ولاية تابعة للخلافة السّادسة، وإيالة خاضعة لسلاجقة العصر الحديث، فقد يُغيّر الثّعبان ثوبه، ولكنّه يبقى ثعبانا. غير أنّ ما يلفت الإنتباه (ويؤسف له)، هو أن الحاكم بأمره الجديد لم يتّعض هو نفسه بما جنى الجماعة على تونس أوّلا، وعلى أنفسهم بالتّالي، عندما أتوا وأعلنوا فساد كل المنظومة التي سبقتهم ووجوب التّخلّص منها وإحداث منظومة جديدة مطابقة لمفهومهم للحكم، فكان ما كان، واليوم نقف نفس الموقف ممّا كان في عهدهم وقبلهم. "المنظومة" يا جماعة مفهوم هلامي يختزل بكثير من البساطة واقعا معقّدا، ويضع في شكارة السلبيات كل ما أنجز من خلال تلك المنظومة يوما ما، ويصبغها برداء من الرجس، ويصبغنا برداء من النقاء، ويختصر الأمر في معركة الطيبين، الذين هم نحن، والاشرار الذين ينتسبون للمنظومة. كل هذا إلى حين نصبح نحن ضمن المنظومة، أو نصبح المنظومة ذات نفسها، وعندها يكون الاشرار هم الذين ضد المنظومة، وهكذا دواليك. كل هذا إلى أن ندرك يوما ما انه ما كان يجب أن نرمي بالرضيع وبماء الغسل معا، وانه كان بالإمكان المراكمة على ما كان، عندها يكون قطار التدارك قد فات. هذه خطيئة زمرة الفكر الإخواني المقيت، بل إحدى خطاياها القاتلة، برهنت من خلالها انها ليست أحسن ممن سبقها في الحكم، بل أسوأ بأكثر من مّرة من حيث فسادها واستبدادها، زائد التطرف والتكفير والتجارة بالدين. ويتبيّن بكل وضوح انهم لم يكونوا فقط مستفيدين من الدّولة، بل معاول لهدمها، وموالين لأعدائها ولأعداء الحريّة والعدل والفكر في ممالك البترول وحول ربوع الأناضول. لذلك، إذا ما رمنا إصلاحا حقيقيا وصريحا، وقبل التطرق للمنظومة وطرق إصلاحها، وجب حسم معركة أهمَّ من ذلك بكثير، معركة ضد الخيانة والعمالة وضد معاول هدم الدولة، وذلك لا يكون بإعادة هدم الدّولة والبناء القاعدي ودفع حجر سيزيف إلى أعلى الهضبة من جديد. وعلى عكس ما يعتقد الكثير من أدعياء الحداثة أو أشباه الحداثيين، هذه المعركة لا تحسم بالعنف، وإن كان حق التصدي للمعتدي بكل الطرق محفوظا، ولا بالسّجون وإن كان من أوكد ما يتوجّب هو محاكمة الإرهابيين وكل من يوفر لهم الغطاء، بل خاصة بنشر قيم الحرية والتسامح والاعتدال والاحتكام للعقل بدل النقل، وفتح أجنحة عقول الأطفال على عوالم الإبداع اللامتناهي. وقد فطن أحد أحبار الزمرة لأهمية هذا البناء الحقيقي والسّليم ووجوب هدمه، عندما قال لوجدي غنيم، داعية ختان البنات: "هؤلاء (يقصد التونسيين) خصوم لنا، ولكن لن نباشرهم بعداوة ظاهرة، لأن غايتنا أبناؤهم…، وأبناؤهم عندنا اليوم". لذلك تكونت الجمعيات، وأحدثت التلفزات والإذاعات، وشُيِّدت مدارس تفريخ الإرهابيين والإرهابيات، وتكونت في المساجد الحلقات، وأصبحت بيوت العبادة معاقل للتكفير والتهديدات، وتم حشد خيرة الشباب للمشاركة في حروب بالوكالة ضد الأشقاء في ليبيا وفي سوريا، وتم انتداب الفتيات والنساء ليكنّ متاعا جنسيّا للدواعش، وليعدن بعد أشهر يحملن في أرحامهن وبين ايديهن ثمرة الفجور، وتم زرع الجبال بالألغام وبث القنابل البشرية بين الأشجار وفي السهول وحتى في الشوارع، يُفجّرون الجنود والامنيين، ويذبحون الرعاة الآمنين، ويحصدون أرواح الأبرياء من السّواح والمواطنين، مُحتَمين بالدعم المادّي والاعلامي والسياسي والمعنوي للزمرة. هذه هي المعركة الحق. أمّا الذين اعتقدوا يوما، أو لا زالوا يعتقدون، أن المنظومة هي الدّولة ومؤسساتها، فإنّي أذكّرهم بالقائل أن الإدارة مش مضمونة والجيش مش مضمون والقضاء مش مضمون؟ لقد كان همه وهمّ زمرته الإنقضاض على تلك المؤسّسات، تدجينها، توظيفها، ثم تفكيكها، وقد تسنّى لهم الكثير ممّا أرادوا، بدل إصلاحها لما فيه صالح البلاد والعباد. وإنّي أرى اليوم نفس المشروع بوجه لا يقلّ رداءة وانعداما للكفاءة، وجه الطّهورية والنّقاء للرئيس والزّمرة الجديدة، مقابل نجاسة وفساد الجميع: اليمين، اليسار، الدّساترة، إتحاد الشغل، إتحاد الأعراف، صندوق النّقد، معاهد التّصنيف… لقد استغلّ الإخوان فساد منظومة التّجمّع للدّعاية لمشروعهم، ولمّا أفلسوا، أصبح التجمّعيون يرقصون على إيقاع ذلك الفشل لإعادة التسويق لمشروعهم والإنتشار مجدّدا لدى فئات قصيرة الذّاكرة، أعماها اليأس من المستقبل فأصبحت تحيط الماضي القريب والقبيح بهالة من الجمال والطهر. وهذا سبب صمت الإخوان النسبي ودفعهم بزبانيتهم للواجهة تحت مسمّى مواطنون ضد الإنقلاب، تماما مثلما فعلوا ذات أكتوبر 2004، عملا بالمقولة الشعبية "ينخز البهيم ويتّقى بالبرذعة"، لكي يمعن سعيّد وزمرته في مشروعهم، وعندما تصفعه حقيقة الفشل، يظهرون من جديد بمظهر المنقذ المنتظر، ويذكّرون التّونسيين "بإنجازات" عهدهم السعيد. فإلى متى نضلّ نجترّ المولد المتكرّر للنّسيان، ونخطأ قطار تأصيل الكيان، وننتظر الماء من سدّ غيلان، وهو ينساب من الخزّان، ونلعب دور السندباد والطهارة، فتؤول أعمالنا للخسارة؟