نعيش اليوم انطلاقة متعثرة لسنة دراسية جديدة بسبب العديد من النقائص التي تشوبها في كل المستويات. ويتجه التّاكيد بالمناسبة على أنّ نمو المجتمعات يرتبط في كلّ مجالات الحياة بجودة منظوماتها التعليميّة والتّربوية ويتفاعل تطورها في كلّ القطاعات مع درجة أداء مدارسها ومعاعدها وجامعاتها. وتمُثّل التربية مع التعليم العمود الفقري لحقوق المواطن الإنسان وخاصة منها حريته وكرامته. وقد راهنت تونس منذ الاستقلال على التّربية والتّعليم بمختلف مراحلهما وعلى التكوين وعلى العلم والمعرفة لإرساء ثوابت دولة عصريّة ومدنيّة متطورة في كل الميادين. وكانت النتائج في مستوى الآمال والرهانات والاستثمارات. ففي زمن ليس ببعيد نسبيا كان الطالب التونسي لا يجد أي إشكال في مواصلة دراسته بمؤسسات التعليم العالي سواء كانت منتصبة بدول غربية أو شرقية. وكانت العديد من الشهادات المسلمة بهذه البلدان ومنها بلجيكيا لا تصبح سارية المفعول ببلادنا إلا بعد مصادقة وزارة التعليم العالي عليها. وكانت الدروس الخصوصية تعطى مجانا وفي حالات استثنائية وكان الفاشل في المدرسة العمومية فحسب والذي له امكانيات يواصل تعليمه بالمعاهد الخاصة. غير أنّه وعوضا أن تواصل المنظومة مسيرتها في اتجاه التميّز أخذت منذ عقود منحدر التدنّي من سنة إلى أخرى. فتكفينا قراءة موضوعية للأرقام والمؤشرات لنتأكد من الواقع الخطير التي أصبحت عليه مدرستنا. حيث يتجاوز عدد تلاميذنا الذّين ليس لهم أي أمل في النّجاح المدرسي نسبة تفوق 75 بالمائة من المتعلمين ويغادر المدرسة سنويا أكثر من 100 ألف من أبنائنا وبناتنا دون أي تحصيل معرفي أو تكوين جدّي وذلك منذ أكثر من 20 سنة. وفقدت مدرستنا العمومية شرط المجانية ليصبح التّعلُّم والنّجاح رهائن لإمكانيات العائلة المادية والثقافية وتدنى المستوى المعرفي العام لتلاميذنا مقارنة بتلاميذ عديد الدول الأجنبية وازدهرت سوق الدروس الخصوصية وساءت العلاقة بين أعضاء الأسرة التربوية أولياء وتلاميذ ومربين وتفاقمت ظاهرة العنف المدرسي وحالات عدم استقرار المنظومة بكل مكوناتها وفقد المجتمع ثقته في المدرسة العمومية واتسعت الهوة المعرفية والثقافية بين الجهات وانتشرت ظاهرة الثقافات غير الواعية وغير الأخلاقية وارتفعت نسبة البطالة ضمن أصحاب الشهادات العليا وتنامت ظاهرة هجرة المتميزين من أبنائنا إلى الخارج وظاهرة الهجرة غير الشرعية وتدهور الاقتصاد الوطني الى مستويات غير مسبوقة … ومن هذا المنطلق صار من الضروري والمستعجل التدخل لإنقاذ المنظومة التربوية والتعليمية وخاصة ما هو متعلق بمراحلها الابتدائية والثانوية انطلاقا من مراجعة القوانين المنظمة للقطاع والجاري بها العمل منذ أكثر من عقدين بالإضافة إلى العديد من الإجراءات الأخرى منها ما يمكن الانطلاق في تنفيذه فورا ومنها ما يتطلب تنفيذه سنوات. وتتعلق هذه الإجراءات بالأساس بتعميم السنة التحضيرية تدريجيا وبتدعيم قدرة أبنائنا وبناتنا على القراءة والكتابة والحساب والاحترام وبتحديد موقع اللغات في المنظومة التربوية وبمراجعة المناهج والبرامج التعليمية ومنظومة التقييم والزمن المدرسي وبمراجعة كيفية حوكمة القطاع وبمزيد التحكم في الموارد البشرية تكوينا وتوظيفا وتأجيرا وبتحسين نوعية الحياة داخل المدارس والمعاهد وبتشريك الأولياء في مشروع المدرسة صياغة وتنفيذا ومتابعة وبمراجعة خارطة المؤسسات المدرسية وبتثمين دورالقطاع الخاص ليكون رافدا لمجهود الدولة لا منافسا لها ولا بديلا عنها. وتتمثل الأهداف الأساسية من هذا التوجه في إرساء منظومة تربوية ومنظومتي تعليم بمختلف مراحله وتكوين مهني دائمة الأداء العالي والجيّد. على أن تتعهّد فيها المدرسة العمومية بالأساس بوظيفة التربية على القيم والحقوق والواجبات على أساس ضمان شروط المجانية والعدالة الاجتماعية وتكون بالفعل المصعد الاجتماعي الذي نرتئيه لكلّ أبناء تونس وبناتها ليتمتعون من خلاله بنفس حظوظ النّجاح والتطلع إلى الأفضل ميسورين كانوا أو معوزين وأين وجدوا بكلّ ربوع الوطن ومتى وجدوا. مدرسة منفتحة على محيطها الدّاخلي والخارجي يشعر بها المتعلم والمعلّم وكذلك الوليّ بالرّاحة بالانشراح وبالأمل وبالرغبة الفعلية في مزيد العطاء والنجاح والتميز. وبالتوازي تتعهد منظومتي التعليم بمختلف مراحله والتكوين المهني بتمكين أبنائنا وبناتنا من المعارف والمناهج الأساسية ومن التكوين الملائم في اختصاصات تتماشى ومؤهلاتهم ورغباتهم ومستوياتهم ليمتهنوا في نهاية المسار حرفة تضمن لهم حريتهم واستقلاليتهم وكرامتهم من جهة وتستجيب من جهة ثانية إلى الحاجيات الوطنية من مختلف المهن في الحاضر والمستقبل وإلى متطلبات النمو والتطور والتميز والاندماج في عالم العلم والمعرفة والتكنولوجيات الحديثة. ويتطلب نجاح هذا المشروع المجتمعي والوطني توفير كل الإمكانيات الضرورية قانونية كانت أو بشرية أو مادية او تنظيمية وذلك من خلال إرادة سياسية فعلية لتسوية كل العراقيل التي حالت دون إصلاح المنظومة إلى اليوم منها ما هو متعلق بالعقليات المرسخة للفكر القطاعي والرافضة للعمل التشاركي والتي تعمدت إقصاء كل الأطراف والاختصاصات المعنية ومنها ما هو متعلق بالقوانين والتي يتشبث البعض بتجاوزها ومنها ما هو متعلق بالموارد المالية ومحدودية ميزانية التربية والتي تستحوذ الأجور القسط الأكبر منها. رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ