كشفت أحدث إحصائيات المرصد الوطني للسلامة المرورية أن الطرقات التونسية أودت بحياة 1112 شخصًا خلال سنة 2024. ورغم أن هذا العدد يسجل تراجعًا بنسبة 4,63% مقارنة بسنة 2023، إلا أنه يسلط الضوء على حجم الآفة التي تفتك يوميًا بالأسر التونسية. و أمام هذه الوضعية المأساوية، تعوّل الدولة اليوم على تكنولوجيا ثورية: الذكاء الاصطناعي الموجّه لمراقبة الطرقات. من شأن هذه الابتكار أن يُحدث تحولًا جذريًا في مشهد السلامة المرورية، فضلًا عن تحقيق عائدات مالية هامة لخزينة الدولة. مشروع قانون قيد الإعداد منذ 2024 قبل نحو عام، درست رئاسة الحكومة مشروع قانون يهدف إلى استكمال مجلة الطرقات، وفقًا لمعطيات تم الكشف عنها في مارس 2024. وتمثل هذه المبادرة الحكومية نقطة انطلاق لإصلاح طموح لا يزال متعثرًا على أرض الواقع. فرغم الطابع الاستعجالي الذي تعكسه الأرقام المفزعة لحوادث المرور، تصطدم عملية تنفيذ هذا النظام التكنولوجي ببطء الإجراءات الإدارية وتعقيدات العمل البيروقراطي. و قد صادقَت الحكومة التونسية على إصلاح هيكلي في إطار مشروع قانون المالية لسنة 2025 يهدف إلى إعادة تنظيم نظام الخطايا المرورية، وذلك عبر تقليص عدد أصناف المخالفات من خمس إلى ثلاث. و يمهد هذا التعديل الهيكلي الأرضية القانونية اللازمة لدمج الذكاء الاصطناعي في منظومة المراقبة المرورية. غير أن الفجوة الزمنية بين الإعلان عن هذا المشروع وتحقيقه على أرض الواقع تعكس حجم التحديات التي ما تزال قائمة. عين إلكترونية لا تخطئ على طرقاتنا تشكل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المدمجة في الكاميرات والرادارات الجديدة قفزة تكنولوجية غير مسبوقة. فهذه الأجهزة من الجيل الجديد قادرة على تحليل سلوك السائقين في الزمن الحقيقي بدقة متناهية. و على خلاف النظم التقليدية، ترصد هذه الكاميرات الذكية عدة مخالفات في آنٍ واحد، مثل الإفراط في السرعة، وتجاوز الإشارات الحمراء، والتوقف في أماكن ممنوعة، وعدم احترام المسافات القانونية بين العربات. تضمن هذه الرقابة الدائمة والمؤتمتة تغطية شاملة لحركة المرور، وتُلغي ما يُعرف بالنقاط العمياء في آلية الردع. لم يعد بإمكان السائقين التعويل على غياب الدوريات أو أجهزة المراقبة للإفلات من العقاب. فالحضور التكنولوجي الدائم سيؤثر نفسيًا على سلوكهم، ويُرسّخ ثقافة احترام قانون الطرقات بشكل منهجي. مورد استثنائي لتحسين البنية التحتية الطرقية تُظهر التقديرات الاقتصادية المرتبطة بهذا المشروع التكنولوجي آفاقًا واعدة. فحاليًا، تدرّ المخالفات المرورية حوالي 70 مليون دينار سنويًا على خزينة الدولة. ومع التعميم المرتقب لتقنيات الذكاء الاصطناعي، قد ترتفع هذه العائدات إلى 700 مليون دينار سنويًا، أي بزيادة تُقدّر بألف بالمائة. و يُعزى هذا الارتفاع إلى الأتمتة الكاملة لعملية تسجيل المخالفات، حيث تُحرر كل مخالفة تلقائيًا بمجرد رصدها، ما يُلغي الخسائر الناجمة عن المراقبة الجزئية والتدخل البشري. كما تتوقع السلطات انخفاضًا كبيرًا في التكاليف التشغيلية بفضل إحلال الذكاء الاصطناعي تدريجيًا محل الدوريات التقليدية في بعض المحاور. نحو تحول مستدام في منظومة النقل التونسية يفتح هذا التحول التكنولوجي آفاقًا جديدة لتطوير شامل في نظام النقل التونسي. إذ ستُمكن العائدات الإضافية من تمويل مشاريع لتحسين البنية التحتية المؤجلة منذ سنوات، وتعزيز حملات التوعية، وتحديث تجهيزات فرق الإنقاذ. كما يتجاوز الأثر الاجتماعي لهذا التحول حدود الأرقام والمعطيات المالية، فكل حياة تُنقذ بفضل سلوك مروري أكثر مسؤولية تمثل انتصارًا إنسانيًا لا يُقدّر بثمن. وسيتمكن التونسيون من التنقل بثقة أكبر، وهم يعلمون أن التكنولوجيا باتت تحرس سلامتهم. يمثل هذا التحول دخول تونس عصرًا جديدًا من السلامة المرورية. فالذكاء الاصطناعي، حين يقترن بإرادة سياسية صادقة، يرسم ملامح مستقبل قد تصبح فيه الكوارث المرورية استثناءً لا قاعدة. كما تتجاوز رهانات المشروع الإطار المحلي، إذ بإمكان تونس أن تُصبح نموذجًا إقليميًا في الابتكار الأمني و تبرهن على إمكانية التوفيق بين التقدّم التكنولوجي، وحماية الأرواح، والتوازن المالي.