لا يزال الجدل حول الهجرة يؤجّج الرأي العام، سواء في الولاياتالمتحدة أو في أوروبا. ففي سنة 2024، شكّل المهاجرون 15,2% من إجمالي السكان في الولاياتالمتحدة، وفقًا لبيانات الأممالمتحدة. و يضع هذا الرقم الولاياتالمتحدة في مرتبة متقدّمة قليلًا على الاتحاد الأوروبي (14,1%)، لكنه يظل بعيدًا عن نسب الهجرة المرتفعة في بعض دول الخليج مثل قطر (76,7%) والإمارات العربية المتحدة (74%)، حيث تسهم الهجرة بشكل كبير في تشكيل البنية الديموغرافية. و تؤكّد دول مثل موناكو (70,2%) ولوكسمبورغ وسنغافورة (حوالي 50%) هذا التوجّه في الاقتصادات المفتوحة ذات الجاذبية العالية. أما في أوروبا، فتسجّل سويسرا نسبة مرتفعة أيضًا (31,1%)، تليها أستراليا ونيوزيلندا والدول الإسكندنافية مثل السويد (21,4%)، وألمانيا (19,8%)، والمملكة المتحدة (17,1%)، وفرنسا (13,8%). و على المستوى العالمي، كان هناك 281 مليون شخص يعيشون خارج بلدانهم الأصلية في سنة 2020، أي ما يمثل 3,6% فقط من سكان العالم. و هي نسبة متواضعة تُضعف السردية التي تتحدّث عن "اجتياح عالمي" للمهاجرين. عامل حاسم : استقرار تدفّقات الهجرة و رغم أن العدد الإجمالي للمهاجرين لا يفسّر بمفرده التوتّرات الاجتماعية، فإن استقرار أو حدة تدفّقات الهجرة يبدو أكثر تأثيرًا. و يُعدّ المثال الأوروبي سنة 2015 دالًا في هذا السياق: فقد اعتُبر تدفّق اللاجئين السوريين صدمة رغم أن نسبتهم لم تكن مرتفعة. ففي ألمانيا، أدى دخول مليونَي شخص – أي ما يعادل 2,4% من السكان – خلال عام واحد إلى إثارة نقاش وطني واسع. أما في السويد، فرغم أن الزيادة كانت أقل (من 1,1% إلى 1,4%)، فإن القلق الشعبي كان مشابهًا. و على النقيض من ذلك، تمكّنت سويسرا من الحفاظ على سياسة هجرة مستقرة، بمتوسط سنوي قدره 150 ألف وافد بين عامَي 2012 و2022، وهو ما يمثل 1,8% من سكانها. و يبدو أن هذا النموذج يؤكّد أن انتظام تدفّقات الهجرة عامل أقوى في تعزيز القبول الشعبي من حجمها الكلّي. الولاياتالمتحدة : بين التنظيم القانوني و التدفّقات غير النظامية تمثّل الحالة الأمريكية نموذجًا واضحًا. فبعد أن بلغ عدد المهاجرين الشرعيين ذروته في عام 1991 (1,8 مليون وافد جديد)، انخفض إلى 665 ألفًا سنة 1999، ثم عاد إلى الارتفاع ليبلغ 1,2 مليون سنة 2023. و يمثّل هذا العدد نحو 0,4% من السكان. والأهم من ذلك، أن كامل النمو السكاني في الولاياتالمتحدة بين عامَي 2022 و2023 جاء من الهجرة، وهي سابقة لم تحدث منذ سنة 1850. وبدون الهجرة، لكانت وتيرة النمو السكاني قد توقّفت أو شهدت تراجعًا. غير أن هذه الديناميكية تصطدم بظاهرة موازية: الهجرة غير النظامية. فبين عامَي 2019 و2023، دخل البلاد نحو 3 ملايين شخص بطريقة غير قانونية، وفقًا للتقديرات. و يُقدَّر عدد المهاجرين غير النظاميين بما بين 11 و14 مليون شخص، وهو رقم يثقل كاهل النقاشات السياسية ويُغذّي الخطابات الشعبوية. الهجرة : استجابة للشيخوخة العالمية أمام تسارع وتيرة الشيخوخة في أكثر من نصف دول العالم، لم تعد الهجرة خيارًا، بل أصبحت ضرورة استراتيجية. فأنظمة التقاعد، وأسواق العمل، وبُنى الرعاية الاجتماعية مهدّدة نتيجة انخفاض معدلات الولادة. و في هذا السياق، تصبح الهجرة القانونية و المخطّط لها و المنتظمة أداة للتنظيم الاجتماعي بقدر ما تمثّل رافعة للنمو الاقتصادي. تحليل البيانات تُظهر قراءة هذه المعطيات أن المشكلة لا تكمن في معدل الهجرة بحد ذاته، بل في طريقة إدارتها. فالتدفّقات المفاجئة أو غير المنظّمة تُضعف التماسك الوطني. و على العكس من ذلك، فإن السياسات الشفافة والمخطّطة، المصحوبة بآليات فعّالة للإدماج، تُسهم في الحد من التوترات وتعزيز القبول الشعبي. و قد يكون من مصلحة الولاياتالمتحدة الفصل بشكل أوضح بين الهجرة القانونية وتلك غير القانونية، عبر تعزيز قدراتها الاستيعابية، وتثمين الإسهامات الاقتصادية للمهاجرين، ومكافحة الشبكات غير الشرعية. و على المستوى العالمي، أصبح التحدّي يتمثّل في تجاوز الخطابات الهوياتية نحو بناء سياسات هجرة مستدامة، تقوم على التوازن بين الأمن والعدالة الاجتماعية والحاجيات الديموغرافية. و في عالم يزداد شيخوخة، لم تعد المسألة "هل نستقبل؟"، بل أصبحت: "كيف نستقبل بذكاء؟".