بقلم: الأستاذ الدكتور الهادى النابلي – كلية العلوم، جامعة صفاقس في السنوات الأخيرة، تشهد شعبة الرياضيات في التعليم الثانوي تراجعًا مقلقًا من حيث الإقبال. فقد بلغ عدد المترشحين لها في باكالوريا 2025 نحو 8231 تلميذًا فقط، مقابل 49229 تلميذًا في شعبة الاقتصاد والتصرف، وهو ما يعادل تقريبا 6 أضعاف شعبة الرياضيات. هذا التفاوت لا يمكن النظر إليه كمجرّد "اختيار شخصي"، بل هو أساسا انعكاس مباشر لسياسات التوجيه الجامعي وطريقة توزيع طاقة الاستيعاب في الشعب الجامعية. التوجيه الجامعي: حين تؤثر الأرقام على القرارات نلاحظ أن "مجموع آخر موجّه (score)" إلى مختلف الشعب الجامعية يتأثر بشكل مباشر بطاقة الاستيعاب: فكلما ارتفعت، انخفض المجموع المطلوب، والعكس بالعكس. هذا ما يجعل بعض التخصصات الجامعية أكثر "مرونة" لتلاميذ شعبة الاقتصاد أو العلوم التجريبية مقارنة بنظرائهم في شعبة الرياضيات. على سبيل المثال، في شعبة الطب بجامعة تونس المنار، تم توجيه 243 تلميذًا من شعبة العلوم التجريبية مقابل 131 فقط من شعبة الرياضيات. كنتيجة حتمية لهذا التباين في طاقة الاستيعاب، كان مجموع آخر موجَّه في شعبة الرياضيات (188.47) أعلى من نظيره في العلوم التجريبية (181.64). كما نجد أن الإحازة في إدارة الأعمال بالإدارة العامة للدراسات التكنولوجية خصصت مقعدا واحدا لتلاميذ الرياضيات مقابل 100 مقعد للاقتصاد والتصرف، وبالتالي كان مجموع آخر موجّه لشعبة الرياضيات أعلى ب43 نقطة تقريبًا. في المقابل، حين تكون طاقة الاستيعاب مرتفعة لشعبة الرياضيات يكون المجموع لصالحها. فعلى سبيل المثال، تم تخصيص 100 مقعد لشعبة الرياضيات للهندسة المعمارية بجامعة قرطاج ومقعد واحد لشعبة اقتصاد وتصرف فكان المجموع على التوالي 148.64 و172.86 أي بفارق يقارب 25 نقطة. النتائج: نزيف صامت نحو الشعب "الأسهل" هذه المفارقات تدفع الكثير من التلاميذ إلى تفضيل شعب تبدو فرصها في التوجيه أفضل، حتى وإن لم تكن تتماشى مع قدراتهم أو طموحاتهم. بل إن بعض تلاميذ الرياضيات في السنة الثالثة ثانوي يعمدون إلى تغيير شُعبتهم نحو العلوم التجريبية (أو شعب أخرى) بحثًا عن فرص أكبر في شعب مثل الطب والصيدلة. لكن المفارقة اللافتة أن الطلبة الأوائل في الشعب الجامعية، بما في ذلك الشعب الأدبية مثل القانون، هم في الغالب من خريجي شعبة الرياضيات. فهل يُعقل أن يتقلص عددهم سنويًا رغم هذا التميز الأكاديمي الواضح؟ إعادة التوازن: مقترحان واقعيان المقترح الأول: توسيع طاقة الاستيعاب لحل هذا الإشكال، أقترح توسيع طاقة الاستيعاب في الشعب الجامعية التي تستقطب عادة تلاميذ شعبة الرياضيات، مثل الطب والهندسة والإعلامية، مما يخفّض المجموع المطلوب ويجعل التوجيه إليها أكثر مرونة. عملية التوسيع هذه تؤدي حتما إلى أن يكون مجموع طاقة الاستيعاب لكل الشعب من باكالوريا رياضيات أكبر من عدد الحاصلين على باكالوريا رياضيات أنفسهم. لتدارك هذا الخلل، يتم تقليص طاقة الاستيعاب لتلاميذ باكالوريا اقتصاد وتصرف في الشعب التي يشترك التوجه إليها كلا النوعين من الباكالوريا: "رياضيات" و"اقتصاد وتصرف". يمكّن هذا المقترح من إعطاء مرونة أكثر في التوجيه الجامعي للتلاميذ الحاصلين على باكالوريا رياضيات مما يؤدي إلى تحفيز التلاميذ لاختيار هذا النوع من الباكالوريا. من ناحية أخرى، فإن عملية التقليص، والتي تتم فقط في الشعب المشتركة بين الرياضيات والاقتصاد والتصرف، من شأنها أن تؤدي بعدد لا بأس به من التلاميذ إلى تفضيل شعبة الرياضيات على شعبة اقتصاد وتصرف. المقترح الثاني: تأجيل التخصص إلى الجامعة أدعو إلى إعادة التفكير في توقيت التخصصات المدرسية، فالتلميذ في سن السادسة عشرة غير مؤهل بعد لإدراك تعقيدات المواد الاقتصادية أو التصرف في الموارد البشرية، وهو ما يفسر اعتماد أغلبهم على الحفظ بدل الفهم، وهو ليس المقصود من العملية التعليمية كما يقول العلامة ابن خلدون. لذلك، من الأفضل تأجيل هذا النوع من التخصصات إلى المستوى الجامعي، حيث يكون الطالب أكثر نضجًا واستعدادًا. بخصوص شعبة الإعلامية، الملاحظ أن أن المتفوقين في الإعلامية بالجامعة أغلبهم من باكالوريا رياضيات وليس من باكالوريا إعلامية. لهذا السبب، فإني لا أرى فائدة من إحداث تخصص في المرحلة الثانوية يكون التميز فيه بالجامعة لخريجي شعبة أخرى. أما شعبة الرياضة فهي حالة خاصة، وهدفها واضح: السماح للرياضيين بمواصلة تعليمهم دون التضحية بمسيرتهم الرياضية. طالما تحقق هذا الهدف، فلا مانع من الإبقاء عليها. شعبة الرياضيات ليست نخبويّة... لكنها أساسية القول بأن شعبة الرياضيات "صعبة" أو "نخبوية" لا يبرر تهميشها. بل العكس، إن تراجع الإقبال عليها ينذر بخسارة كفاءات علمية عالية يحتاجها البلد في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الهندسة، الطب، المالية، والتخطيط الاستراتيجي. فمن غير المقبول أن تكون هذه الشعبة الأكثر تميزا وصرامة من جهة، والأقل مرونة في التوجيه والأقل حظًا في الانتشار من جهة أخرى. خاتمة ما لم تُراجَع سياسات التوجيه الجامعي وتُعدَّل هيكلة الشعب المدرسية، فإن شعبة الرياضيات ستستمر في فقدان مكانتها، ليس لأن التلاميذ غير مؤهلين لها، بل لأن النظام لا يُكافئهم على اختيارها. إن إنقاذ هذه الشعبة ليس مجرد خيار تربوي، بل هو قرار استراتيجي يُعيد الاعتبار للمجال العلمي المُبتكر، ولجيل قادر على رفع تحديات المستقبل. نبذة مختصرة عن الكاتب الهادي النابلي أستاذ تعليم عالٍ بكلية العلوم في جامعة صفاقس. نال شهادة الأستاذية في الرياضيات من دار المعلمين العليا ببنزرت، بعد اجتياز اختبارات علوم التربية وتعلميّة الرياضيات بنجاح. حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية من جامعة رين 1 بفرنسا، ثم شهادة التأهيل الجامعي من المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس. إلى جانب نشره أبحاثًا علمية في مجلات عالمية محكمة ضمن مجال اختصاصه، شارك في العديد من الندوات المحلية والدولية التي تناولت تدريس الرياضيات، وإسهامات العلماء العرب في هذا الميدان، وسبل إدماج هذه الإسهامات في منظومات تربوية حديثة. تعليقات