لبنان تحترق بنيران سياسييها ورجالها وطوائفها ورموزها وصناع القرار فيها.. لبنان التي كانت دائما شمعة تضيء السماء العربية المظلمة، ارتدت عليها الشمعة لتبدأ بحرق أطراف قميصها الممزٌق أصلا بفعل التشتت الطائفي والصراعات السياسية التي لا تكاد تخبو حتى تطفو على السطح من جديد.. بدا لبنان منذ نحو عامين على صفيح ساخن، لم تكن ما يعرف ب "حرب تموز" في العام 2006، التي شنتها إسرائيل على لبنان، وبخاصة على قواعد المقاومة اللبنانية، سوى الإرهاصات الحقيقية لوضع لبنان ضمن مربّع وحيد، عنوانه الأبرز: "الانفتاح على الحرب دائما".. بعد هدوء نسبي لبضع سنوات، قاد خلالها رفيق الحريري البلاد إلى شاطئ بمحاذاة الألغام المتربصة هنا وهناك، في أعقاب حرب أهلية استمرت لما يزيد عن خمسة عشر عاما، أطلت بعض القيادات السياسية والعسكرية التي كانت بالأمس وقود تلك الحرب وفتيلها، أطلت برؤوسها من جديد، بعناوين وأسماء وإحالات جديدة، استخدمت خلالها، وبشكل مكثف، تعبيرات "الوفاق" و"الديمقراطية" و"التقدمية" و"مصلحة البلاد العليا"، لكي تخترق المنظومة السياسية اللبنانية، التي كانت على الدوام أكثر المنظومات السياسية العربية إنتاجا وفاعلية، لكنها الأكثر قابلية للاختراق والتموقع.. غير أن تسارع وتيرة الأحداث، التي بدأت بالفراغ المهين للرئاسة اللبنانية، حتى قبل أن يتنحى العماد إميل لحّود، وما تلاه من صدور القرار الأممي رقم 1559 الهادف لنزع سلاح "حزب الله" أو احتوائه على الأقل تحت شعار "إدماجه ضمن سلاح الجيش اللبناني"، والتراشق المتصاعد بين ما عرف ب "الموالاة" و"المعارضة"، والتي تحولت إلى "حرب خيام"، في قلب العاصمة اللبنانية وأمام مبنى رئاسة الحكومة ذاتها، كل ذلك أسقط جميع الأقنعة التي كان البعض يخفي بها حقيقة تحالفاته الإقليمية والدولية.. والنتيجة أن لبنان بدا وكأنه مسرح لبعض الصراعات والتجاذبات العربية، والحسابات الأمريكية، والأطماع الإسرائيلية.. وعلى الرغم من تعقيدات الأزمة اللبنانية واختلاط أوراق اللعبة فيها، والطابع الجدّي للمواقف والمقاربات، وسخونة الوضع القابل للاشتعال في أية لحظة، فإن البعض لم يتردد في اختزال المشهد في "سلاح المقاومة"، فيما يشبه البعبع، من أجل بث الرعب في أي مسلك للحل من جهة، والضرب أفقيا علاقة لبنان بإيران، تماهيا مع الأجندة الأمريكية من جهة ثانية.. باتت إيران، وفقا لهذا المنطق الأمريكي، الذي تصدّره بعض القوى اللبنانية بالوكالة، تمشي برجلين: واحدة سورية، والثانية لبنانية متمثلة في "حزب الله"، كما يذهب إلى ذلك البعض، عن حق أو صواب.. المهم إحالة الملف اللبناني على قلعة مفاتيحها خارج لبنان، وكلمة السر الأساسية لفك شفرتها، تبقى بأيد غير لبنانية، وضمن أفق لا تتحكم فيه الطبقة السياسية اللبنانية.. هل أن نزع سلاح "حزب الله" اللبناني، مفتاح سحري لحل مشكلات لبنان ؟ وهل أن تحجيم الدور الإيراني مدخل ل "جنّة" لبنانية موعودة ؟ وما الذي يمكن قوله بالنسبة لأدوار عربية أخرى، "تحشر أنفها" في هكذا وضع لبناني، وتدير بدورها بعض الأطراف والشخصيات والأحزاب والفعاليات المالية من وراء ستار، بات غير شفاف منذ ثلاثة عقود على الأقل ؟ وعندما يطرح المرء موضوع "التدخل الخارجي" في لبنان، هل بالإمكان غض العين عن الدور الأمريكي والأجندة الإسرائيلية، التي يتلقى البعض أوامره، بل ربما "تصريحاته" منها ؟ ثمة حالة من "الهذيان السياسي" في لبنان، يمارسها البعض ضد البعض الآخر بطريقة منهجية منظمة ومحسوبة، لكنها باتت مكشوفة لمعظم المراقبين والمحللين، ويبدو أن "حزب الله" سئم هذه الوضعية، لذلك اتجه نحو الحسم عبر القوة المليشياوية، من أجل أن يتقدم في السياسة، بما لم تستطع السياسة أن تتقدم به، وهو الحوار الجدّي بغية التوصل إلى حلّ للمأزق اللبناني.. ليس هنا مجال حديثنا عن صحة ما أقدم عليه "حزب الله" من عدمها، على اعتبار أن استعراض القوة سلاح ذو حدّين، ليس بالإمكان التحكم في نتائجه وتداعياته، إلا إذا التزم "حزب الله" بسقف يغلب السياسي على العسكري، ويكون ما أقدم عليه فعلا من أجل التوصل إلى حلول سياسية تعجّل بترتيب البيت الداخلي اللبناني.. على أن المشكل اللبناني ليس مشكلا إقليميا كما يحرص بعض اللبنانيين ذاتهم على تسويقه إنما هو مشكل يمس بنية النظام السياسي اللبناني، الذي يحتاج اليوم إلى مراجعة جذرية تجعله بمنأى عن أي تدخل خارجي، حتى وإن كان من أطراف لبنانية مرتبطة بأجندا خارجية.. لبنان بحاجة إلى كل أصدقائه، بدء بسوريا وإيران والسعودية ومصر وغيرها، لكن قاعدة "لبننة" الملف اللبناني، وليس تعريبه أو تدويله..