كثيرة هي الدروس والعبر التي حملتها في طياتها الاحداث الماساوية الاخيرة على الساحة الفلسطينية ولعل اهم واول هذه الدروس التي لا تخفى على متتبع الاحداث ان واشنطن وتل ابيب لا يمكن ان تجتمعا على ما فيه مصلحة القضية الفلسطينية او الفلسطينيين. صحيح ان الادارة الامريكية تملك مفاتيح الحل ولديها ما يكفي من الامكانيات والقدرات من اجل تسوية في الشرق الاوسط يمكن ان تكون قريبة من العادلة ولن تكون... الا انها غير مستعدة لهذا الدور في هذه المرحلة وربما لفترة طويلة وليس قبل ان يستفيد العرب من مختلف دروس الهزائم والنكبات والنكسات التي تعرضوا لها وليس قبل ان يدركوا ضرورة التحكم بمصائرهم والتحرر من كثير من العقد البغيضة التي تشدهم الى الخلف وتمنعهم من رؤية الواقع على حقيقته. ولاشك ان الذين استبشروا بالدعم الخارجي لفلسطيني الضفة على حساب فلسطينيغزة يعتقدون واهمين انه بالامكان ان يرسموا خطا فاصلا بين الفلسطينيين متجاهلين ان فلسطينالمحتلة ليست المانيا ولا كوريا الشمالية وهم في كل الاحوال انما يقيمون قصورا في الفضاء.... الإصرار على الخطإ...
والمجال هنا لايرمي باي حال من الاحوال الى محاسبة أي طرف كان او تحميل أي طرف المسؤولية دون الاخر فالاحداث والمشاهد من شانها ان تعكس مسؤولية كل طرف ازاء ما حدث ويحدث وتدعو علنا الى ان يتحلى كل طرف بما يكفي من الشجاعة لفتح تحقيق "فينوغراد" فلسطيني فلسطيني يكشف الحقائق ويمنع تكرار ما حدث فلا احد يملك صك البراءة او الادعاء بنقاوة اليدين ازاء الدماء الفلسطينية والارواح التي اهدرت ولعل هذا ما يدعو الى ضرورة التوقف كذلك عند المواقف والتحركات الدولية المسجلة لتطويق ماحدث والتي وان عكست في ظاهرها بعض النوايا الحسنة فانها لا يمكن ان تخلو من ازدواجية المعايير والحسابات الخاطئة وديبلوماسية الانانية المكشوفة التي قد تؤول الى غير ما اريد لها وتنتهي الى عكس النتائج التي تم التخطيط لها ان كان هناك من تخطيط تماما كا هو الحال بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية التي تولى الاشراف على مراقبتها فريق دولي تراسه الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر وشهد بنجاحها ونزاهتها وهو اليوم اول من وقف منددا بمحاولة واشنطن تقسيم الفلسطينيين الى شعبين والمشهد بات مالوفا وقابلا للتسويق لتاكيد حسن النوايا في موقع لا يقبل بمحاسبة النوايا... فواشنطن تقرر ارسال مساعداتها الى غزة واسرائيل تعلن الافراج عن الاستحقاقات المالية الفلسطينية المحتجزة في خزائنها والاتحاد الاوروبي يعيد جدولة مساعداته المالية للفلسطينيين خطوات لم تكن لتعلن قبل اسابيع بل انها كانت تبدو اشبه بالامر المستحيل بالنسبة لاصحاب القرار في واشنطن وتل ابيب وبروكسيل وهي خطوات قد تبدو في ظاهرها حريصة على فتح ابواب الجنة امام الشعب الفلسطيني الذي دفعه الحصار الخانق للسقوط في هاوية لامستقر لها حتى الان ولعل تلك الخطوات التي قد لا تتضح نتائجها قبل بعض الوقت دفعت بعض الدول العربية بدورها الى الاقتداء بخطى الاطراف المذكورة لتقرر نقل بعثاتها الديبلوماسية الى الضفة الغربية في رسالة واضحة بمقاطعة حماس بعد احكام سيطرتها على غزة الاسبوع الماضي... وفي المقابل تستمرالساحة الفلسطينية المفتتة في عملية نشرالغسيل غير البريء وتبادل الاتهامات الخطيرة على الملإ بالتخوين ومخططات الاغتيال حيث ردت فتح على اتهامات حماس بتورط دحلان في اغتيال الرئيس الراحل عرفات باتهمات لا تقل خطورة بمحاولات حماس تصفية رئيس السلطة الفلسطنية محمود عباس وبين هذا وذاك تضيع بقية الاصوات الحكيمة المستضعفة المتبقية بين ثنايا الطلقات النارية لوجوه الملثمين المنتشرين في الشوارع ممن ولدوا من رحم واحدة في احيان كثيرة ولكنهم يصرون مع ذلك على تكرار ماساة قابيل وهابيل على الارض مع اختلاف بسيط وهو انه اذا كان قابيل وهابيل اقتتلا في الماضي السحيق من اجل امراة فان الماساة انه لا وجود اليوم لامراة تستحق ان يقتتل من اجلها الفلسطينيون سواء من اختاروا رفع الاعلام الخضراء او ممن رفعوا الاعلام الثلاثية الالوان. لا يمكن لبوش واولمرت ان يجتمعا لصالح الفلسطينيين...
وامام تكرر الاحداث وتعدد الماسي يبقى المشهد الفلسطيني مراة مصغرة لمشهد عربي مفتوح على كل الاحتمالات في حال استمر الوضع على ما هو عليه واستمرت معه سياسة انتظار انصاف الحلول من الخارج وخيارات وضع الغطاء على برميل البارود الذي قد يتاجل انفجاره بعض الوقت ولكنه متفجر حتما ولو بعد حين ولاشك ان الدخان المتصاعد في سماء لبنان من مخيم نهر البارد قد يمتد لهيبه الى بقية المنطقة ايضا. وبعيدا عن العودة الى ما حدث ويحدث بين الفلسطينيين وما تتناقله مختلف وكالات الانباء من صور الاقتتال الدموي ومشاهد الانتقام البشعة فقد بات الاصرار على مواصلة السير في الطريق الخطإ امرا لا يحتاج لمزيد التوضيح والامر هنا لا يقتصر على الفلسطينيين المنقسمين على انفسهم فحسب بعد ان تعاهدوا على رفض كل اشكال الحوار بل وكذلك على الاطراف الخارجية التي كانت ولا تزال لها اليد العليا والمسؤولية الاكبر في الوصول الى الوضع الراهن في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة وهي في طريقة تعاملها مع تطورات الاحداث على الساحة الفلسطينية ومحاولاتها القفز على الاحداث والالتفاف على الواقع تواصل الهرب الى الامام واعتماد سياسة انصاف الحلول التي من شانها ان تزيد في تعقيد واضعاف القضية الفلسطيية وتراجعها لتتحول من قضية سياسية مرتبطة بمصير شعب يسعى لتحقيق سيادته الكاملة والتحرر من قيود اطول احتلال لهذا العصر الى مجرد صراع لتوفير الخبز اليومي لاكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني نصفهم تحت قيادة حركة حماس في غزة ونصفهم تحت قيادة فتح في الضفة. ومن هذا المنطلق فان نظرة متانية في بعض الخيارات التي اعتمدتها المجموعة الدولية في تعاملها مع تطورات الاحداث الفلسطينية تؤكد حجم الدروس المهدورة على مدى اشهر طويلة من الازمة الفلسطينية ومنها: - ان حالة الفوضى والعنف التي شهدتها غزة والتي الت الى فرض حماس يدها عليها تشهد على فشل استراتيجية الادارة الامريكية في التعامل مع حماس. - ان عملية التضييق الاقتصادية والتجويع والمقاطعة التي فرضت على حكومة حماس ثم على ما سمي بحكومة الوحدة الوطنية كان هدفها دفع حماس الى القبول بشروط واشنطن وتل ابيب او دفعها الى الاستقالة والاعتراف بالعجز - منذ بداية الحصار فان عائلة بين كل خمس عشرة عائلة فلسطينية في الاراضي المحتلة باتت تجر ديونا تقدر بخمس وعشرين الف دولار من اجل الماء والكهرباء والطعام اما عدد الذين يعيشون على اقل من خمسين سنتا في اليوم فقد ارتفع الى اكثر من مليون اما ميزانية السلطة فقد تراجعت من مليار ونصف المليار دولار الى خمسمائة مليون دولار. كما أنّ عشرة آلاف هاجروا منذ جانفي الماضي حتى أنّ المفتي الفلسطيني سارع باستصدار فتوى تحرّم هجرة الفلسطينيين. وقد كشف مبعوث الاممالمتحدة الفارو سوتو الدبلوماسي البروفي في تقريره السري بعد تقديم استقالته جملة من الحقائق التي تكتمت عليها الادارة الامريكية والتي اكد من خلالها ممارسة الادارة الامريكية ضغوطات لفرض اجندة اسرائيلية في المنطقة ودفع الامين العام للامم المتحدة بان كيمون الى الانسحاب من الرباعية، ولم يخف الفارو في تقريره الذي تضمن اكثر من خمسين صفحة ان واشنطن كانت وراء ممارسة الضغوطات الدولية على حكومة حماس وانها السبب الاول في تفاقم الاوضاع الماساوية الفلسطينية. ولا يتوقف تقرير الفارو عند هذا الحد بل انه سلط الاضواء على محاولات قام بها كل من اليوت ابراهامز نائب مدير الامن القومي ودايفيد والش مساعد وزيرة الخارجية بتقليص تمويلات واشنطن للامم المتحدة عن طريق ضغوطات الكونغرس ويكشف الفارو انه لم يكن مخول له خلال فترة ولاية كوفي انان اجراء اتصالات مع وزراء في حكومة حماس رغم ان ذلك يعد جزء من مسؤولياته الديبلوماسية في صلب المنظمة وانه امام تجمع كل الجهود لاسقاط حماس فان العمليات الاستيطانية وبناء الحواجز وتضييق الخناق على الفلسطينيين استمرت دون انقطاع لقاء بوش اولمرت هل يمكن ان يخدم القضية الفلسطينية؟
وللرد عن هذا السؤال الذي قد يثير الاستهزاء لدى الكثيرين يمكن التوقف عند نتائج لقاء هذا الاسبوع الذي جمع الرئيس الامريكي جورج بوش برئيس الحكومة الاسرائيلي ايهود اولمر في واشنطن على وقع احداث غزة الاخيرة حيث لم تخل تصريحات الرجلين من عبارات التفاؤل والدعوات لدعم محمود عباس وتقديم المساعدات المالية لحكومته الجديدة وهو الخطا الاول الذي وقع فيه الطرفان. والحقيقة انه اذا كانت المسائل المالية ضرورية بل ومصيرية بالنسبة للشعب الفلسطيني المحاصر من اجل توفير حاجياته الاساسية فالتجربة قد اظهرت على مدى الاشهر الماضية ان اصرار الادارة الامريكية مرة بعد مرة على اعلان تقيد مساعدات مالية وعسكرية لحركة فتح لم يكن ليساعد محمود عباس بالمرة بل انها زادت في تراجع موقعه على الساحة الفلسطينية وتفاقم الانتقادات الموجهة له بالسقوط في لعبة لا تنتهي من التنازلات دون ان يحصل الفلسطينيون في المقابل على أي شيء وتوجيه الاتهامات له بالانصياع للاوامر الامريكية على حساب مصالح شعبه.... وفي كثير من الاحيان فان نفي عباس حصوله على أية مساعدات امريكية لم يكن ليقدم له القليل او الكثير امام الواقع الفلسطيني الذي ما انفك يتراجع ليصل إلى درجة من الفقر والخصاصة والانقسامات التي لم يعرفها من قبل حتى في احلك الفترات. وبالعودة الى لقاء بوش اولمرت فان الاهم لم يرد في التصريحات والوعود الوردية التي اطلاها بشان مسار القضية الفلسطينية بقدرما ارتبطت بما كشفته وسائل الاعلام الامريكية والاسرائيلية لاحقا بشان اللقاء والاتفاق على الترفيع في المساعدات العسكرية الامريكية الاسرائيلية على مدى العقد القادم الذي وصف بانه اهم ما افرزه اللقاء الذي سيزيد هذا المساعدات بخمسين مليون دولار سنويا لفرض التفوق العسكري الاسرائيلي في المنطقة بما يؤكد مرة اخرى ما كشفته التجارب والاحداث السابقة ان واشنطن وتل ابيب لا يمكن ان تجتمعا من اجل دعم حقوق الفلسطينيين او تقديم المساعدة لهم وان ما يمكن ان يبدو كذلك ليس سوى تكريسا للمصالح الاسرائيلية ليس الا وفي هذا الاتفاق وغيره من الاتفاقات السالفة ما يكفي لتذكير الفلسطينيين ايا كانت انتماءاتهم ان المرحلة الراهنة ليست مرحلة استعراض للعضلات ولايمكن ان تمنح أية فئة ترف الانجراف وراء معركة الكراسي والصراع على السلطة وان مستقبل القضية في حاجة لكل الفلسطينيين ايا كانت اطيافهم وانتماءاتهم والوانهم دون ادنى استثناء فالمعركة الراهنة اخطر من صراع الالوان والايديولوجيات والخيارات المتبقية لانقاذ ما يمكن انقاذه محدودة فاما ان يختار الفلسطينيون طريق الصف الواحد واما فان دخان مخيم نهر البارد يوشك ان يخنق الجميع وعلى من لا يرى الغيوم القادمة الا ان يرفع النظارات التي تحجب عنه الرؤية الواضحة...