يفترض وجود مهن وبعض من القطاعات تحتكم إلى واعز الأخلاقيات المهنية أو الضمير المهني بما يجعلها خطا أحمر أو صمام أمان أمام سلطان المال وإغراءاته، غير أن واقعنا اليومي ومن خلال بعض الوقائع يكشف اننا أبعد بكثير عن ذلك مما يطرح سؤالا ملحا: هل تبددت الأخلاقيات المهنية تحت سطوة المال؟ وهل أن المال وإغراءاته كفيل بأن يزعزع القناعات والمبادئ حتى وان كان ذلك على حساب صحة وسلامة المواطن؟ في مقال له حمل عنوان «ميثاق أخلاقيات مهنة الطب والطبيب والإجرام والإرهاب»، عرّف الدكتور فاروق الشعبوني، استشاري صدرية وحساسية، مهنة الطب على أنها صناعة نبيلة وشريفة ومن هذا المنطق يجب على كل من يتعاطى هذه المهنة أن يتحلى بأخلاق عالية وسامية معتبرا أن أبقراط الذي يُعتبر أبا الأطباء تفطن إلى خاصية هذه المهنة، فوضع قسما لصون شرف هذه الصناعة. وبهذا القسم يتعهد كل طبيب قبل ممارسة الطب أن يكون ذا أخلاق عالية، ولا يزال هذا القسم ساري المفعول إلى يومنا هذا. ولكن يبدو من خلال واقعنا أن هذا القسم قد دخل طي النسيان امام هاجس الربح المادي.. كشفت مؤخرا إدارة الشرطة العدلية بتونسالمدينة قيام طبيب يعمل بأحد المستشفيات العمومية بعمليات إجهاض غير قانونية ويعمد إلى التخلّص من الأجنة داخل وعاء يقوم برميه بسبخة بالعاصمة.. وأفاد الكاتب العام لنقابة الأمن الجمهوري تونسالمدينة طارق الباجي في تصريح لإذاعة «موزاييك أف أم» أن الطبيب كان في البداية يجري عمليات الإجهاض داخل شقق بجهة المنار وحي الخضراء يقوم بتأجيرها للغرض، قبل أن يحوّل نشاطه المشبوه إلى المستشفى الذي يباشر به عمله خوفا من اكتشاف جرائمه. وقد اعترف الطبيب خلال التحقيقات معه انه يتقاضى عن كل عملية اجهاض مبالغ تتراوح بين 400 و1500 دينار، كما أكّد لجوء عدد من الأطباء الآخرين إلى القيام بعمليات اجهاض غير قانونية بالأسلوب ذاته، معترفا في ذات السياق بأنّه تعوّد القيام بهذه العمليات منذ سنة ونصف، علما أنّه يمارس مهنة الطب منذ حوالي 25 سنة. انعدام الواعز الأخلاقي.. وبالتوازي مع هذه الحادثة هناك حوادث أخرى لا تقل أهمية تجسد حالة انعدام الأخلاقيات المهنية في قطاعات حيوية على غرار ما حصل في أوت 2016 حين تم توجيه شكاية قضائية إلى وكيل الجمهورية لمتابعة المصحات والأطباء المتورطين في عمليات زرع لوالب طبية منتهية الصلوحية. الى جانب الارهاب الغذائي الذي نعيش على وقعه يوميا، يفترض ان يكون الناشطون في هذه المجالات اكثر الاشخاص مؤتمنين على صحة وسلامة المواطن ومع ذلك نعيش على وقع منتوجات فاسدة من لحوم ومشتقاتها وغيرها من المواد الاستهلاكية الاساسية الفاسدة غزت اسواقنا، وهو ما يؤكده تصريح المكلّف بالإعلام بوزارة التجارة والصناعة منعم البكاري الذي اورد في تصريح اعلامي سابق لموقع «جيل» إن «تونس دخلت وللأسف إلى جانب الإرهاب المسلّح في الجبال مرحلة الإرهاب الغذائي من خلال انتشار مجموعات «مستكرشة» ترغب في تحقيق الرّبح المادي والثراء السريع على حساب سلامة المواطن».. وللأسف فان انعدام الأخلاقيات المهنية لا يقف عند هذه المجالات وانما يتجاوزها الى قطاعات اخرى يفترض ان اخلاقيات المهنة هي الفيصل فيها على غرار قطاع المحاماة الذي يشهد بدوره عمليات تحيل وفقا لما تؤكده في هذا الجانب بعض الشهادات، هذا دون أن نتغافل عن معضلة الدروس الخصوصية حيث يعمد بعض الأساتذة إلى استغلال التلاميذ بإجبارهم على اخذ دروس خصوصية ليبقى هاجس الجميع هو تحقيق ربح مادي كلف ذلك ما كلف. في تشخيصه لهذه المعضلة يشير ممدوح عز الدين الباحث في علم الاجتماع في تصريح ل «الصباح» أننا نعيش فترة انتقالية على امتداد سبع سنوات وهي فترة تتسم بتحول المجتمع وتحول القيم ومع هذا فقد شهدت هذه الفترة غياب مشروع مجتمعي واضح وهو ما ولد حالة من الارتباك أي حالة أنومية: أي أن المجتمع يعيش فوضى في القيم وهو ما أسفر عن نوع من التراخي في قيام بعض مؤسسات الدولة بعملها. وفسر المتحدث في هذا الشأن أن الدولة في فترة الاستبداد كانت تضع جميع الأجهزة تحت الرقابة وكل التجاوزات التي كانت تقع كانت محل موافقة من قبل السلطة أما اليوم فإننا نشهد تفككا في المؤسسات الاجتماعية ونوعية من فوضى القيم وفوضى المرجعيات الأخلاقية مع غياب النمط الاستهلاكي السليم. فقدان للبوصلة وأورد عزالدين في هذا الشأن أن الثقافة الاستهلاكية التي أصبحت سائدة مرجعها المنفعة والربح المادي الذي لا يستند إلى مرجعية ثقافية أو أخلاقية وإنما يستند إلى مرجعيات السوق التي تحتكم إلى منطق الربح والخسارة. وفسر المتحدث أنه وإزاء ما نشهده اليوم من فوضى للقيم تصاعدت الفردانية في ظل تفشي جملة من العوامل على غرار فقدان العائلة لسلطتها على افرداها إلى جانب تفشي نوع من التفكك في مؤسسات التنشئة الأولية فضلا عن ارتكاز الأحزاب إلى نوع من السجال السياسي إلى خطاب يتراوح بين الوهم والإحباط وغياب للأمل الذي يشجع الشباب. وهو ما يكشف فعلا عن وجود أزمة قيم تعود إلى التحولات الجزئية التي حدثت ونتيجة الثقافة الاستهلاكية القائمة على المنفعة. واعتبر المتحدث أن ذلك يعود إلى غياب ثقافة الردع وتراخي الدولة في تطبيق القانون الأمر الذي ساهم في انتشار الظواهر غير الأخلاقية ليخلص المتحدث إلى القول بان مجتمعنا إلى حد اللحظة يفتقد إلى بوصلة تحدد اتجاهه في ظل وجود أزمة قيم تحتكم إلى جملة من المستويات على غرار تراجع قيمة العمل وفضلا عن ارتفاع المطلبيّة التي يقابلها تراجع قيمة العلم والمعرفة والاهم من ذلك تراجع معطى «القدوة» أو المثال الذي يحتذى به وهو ما انجر عنه فوضى أخلاقية طالت كل القطاعات والتي لا بد من مواجهتها من خلال تطبيق صارم للقانون. في هذا الخضم يبدو أن المسؤولية مشتركة فالجميع مدعوون من حكومة ومختلف هياكل الدولة وأحزاب وإعلام والمجتمع المدني إلى غرس ثقافة القيم والأخلاقيات المهنية وأهمية الضمير المهني كعامل اساسي يسهم في الارتقاء بالأمم والشعوب.