من اليسير قراءة رواية «أعماق» لصاحبها المنجي الوسلاتي دفعةً واحدة فهو يشدّك إليه بخيوط متعدّدة منها الرقيق ومنها السميك، لكنّ مقاربته تحتاج منك إلى النظر إليه من أيقونات مختلفة وتدعوك إلى الإقلاع عن قناعات ومعارف تعتقد أنّها نهائية فتمدّ إليها الرواية بخيوطها الخفية فتزلزلها وتقوّضها. من ناحية المضمون هي مأساة بالمعنى الإغريقي للكلمة، إذ تنطلق في صفحتها الخامسة (ص5) بهذه الجملة: «اتّكأ الأزهر بكلتا يديه على الحاجز الحديدي للجسر» وتنتهي حرفيا بنفس الجملة: «اتّكأ الأزهر بكلتا يديه على الحاجز الحديدي للجسر» صفحة 147 فتكون نقطةُ بدايتها في نقطة نهايتها. وينتهي الطريق ولم تبدأ الرحلة بعدُ. وتصبح الرحلة في الذهن، جاب أثناءها البطل الأزهر الخميري أماكن كثيرة وخبِر أحداثا جمّة وهو ثابت ساكن لم يتحرّك. والسكون في الرواية صخب كبير في الذهن وجلبة لا نتبيّن مصادرها بقدر ما تسمح به الذكرى. إن ما يدعونا إليه كاتب رواية «أعماق» من خلال موضوعها فهو مراجعة المعارف التي قضينا العمر في اكتسابها ليرجع القارئ إلى نقطة بدايته مهما كانت المرحلة التي وصل إليها، وهنا تكمن قيمة رواية «أعماق» فلا شيء ثابت ولا شيء مكتمل نهائيا ومهما كان فعل الإنسان فإنّه يبقى ناقصا والحقيقة الثابتة الوحيدة هي المكان. قيمة «أعماق»، تكمُن في شكلها، هذا الوعاء الذي ضمّن فيه المؤلّف موضوع روايته. الشكل حديث جدا ويعتبر الوسلاتي رائدا في هذا المجال ولم يسبقه إليه أحد في اعتقادي. الشكل عنده يصبح المضمون الحقيقي للرواية وجوهرها الأصلي. والمؤلّف متمرس بالتكنولوجيات الحديثة ومصوّر بارع وإن كان هاو. ويصبح الصراع الحقيقي في الرواية ليس صراع الأزهر بل صراع الكاتب ذاته وهو بدوره صورة لصراع جيل ولد في النصف الثاني من القرن العشرين هذا الجيل الذي عاش المعاصرة والحداثة. فمنذ التوطئة تسيطر على الكاتب الحداثة فيقدّم لكتابه تقديما استعار له مصطلحات كثيرة تُحيل على التطوّر العلمي الذي بلغه الإنسان اليوم في القرن الواحد والعشرين: التحديث، التخزين، الصورة، الذاكرة، الأيقونة.. ويضمّ الكتاب في حدّ ذاته عشرين أيقونة وخمس صور تمتدّ من الصفحة 22 إلى الصفحة 109 وإذا أضفنا إليها بعض الإحالات على الذكرى والصور والتوطئة يبلغ عدد الصفحات التي فيها إحالات على التكنولوجيا الحديثة أكثر من 100 صفحة من أصل 147 صفحة.