اعتاد الرأي العام الوطني خلال السنتين الأخيرتين على مطالبة الأمنيين بسن قانون يحميهم من الاعتداءات وخاصة في كل مرة يقع فيها حادث اعتداء مباشر على أمنيين أثناء القيام بواجبهم.. أبرزها جريمة الاعتداء على الأمني مجدي جدلاوي في سيدي بوزيد حين احترق في سيارته يوم 23 جوان 2017 بسبب اعمال عنف، والحادثة الأخيرة الجريمة الإرهابية التي استهدفت أمني المرور رياض بروطة بساحة باردو بالعاصمة يوم 1 نوفمبر الجاري. حق الأمنيين والقوات المسلحة في الحماية الأمنية والقانونية والاجتماعية ثابت ومطلب مشروع كان يمكن أن يتم منذ سنوات ولا بد من تلبيته.. لكن المشكل أن وزارة الداخلية أعدت مشروع قانون وهو الآن جاهز منذ قرابة ثلاث سنوات ويتعلق «بزجر الاعتداءات على القوات المسلحة»، لكن بالتمعن في أحكامه يتضح ان لا علاقة له بمقاصده وأهدافه فهو لا يكفل حماية الأمنيين من الاعتداءات بقدر ما يوفر تضييقات على الحريات فضلا عن أنه لا يحظى بالإجماع لهذه الأسباب: - يتضمن التشريع التونسي ترسانة من العقوبات والقوانين الزجرية ضد الاعتداءات على المنشآت الأمنية والقوات الحاملة للسلاح ولا ادل على ذلك من قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال المصادق عليه في 7 اوت 2015.. فماذا سيضيف مشروع القانون الجديد..؟، وهل كان ليكون قادرا على منع الاعتداءين الحاصلين على الأمنيين جدلاوي وبروطة لو تمت المصادقة عليه؟ وماذا يمنع ارهابيا او مجرما قرر الاعتداء على أمنيين او الهجوم على مركز امن؟.. تعارض وتناقض رغم ما أثير حوله من جدل ورفض واستهجان من أحزاب وسياسيين ونخب ومجتمع مدني.. فإن السلطة التنفيذية لم تبادر إلى تقديم نسخة جديدة من مشروع القانون المذكور، بل تركته على حاله تلك. فجانب كبير من الفصول التي وردت بالمشروع تتعارض مع أحكام الدستور خاصة تلك المتعلقة بضمان الحقوق الأساسية والحريات مثل حرية التظاهر وحرية التعبير والإعلام والنشر.. والأمر كذلك، من البديهي أن تتصدى منظمات المجتمع المدني والأصوات الحرة والنخب السياسية إلى كل ما من شأنه أن يرجع بنا إلى الوراء باقتراح تشريعات تتعارض مع الدستور والحريات الأساسية التي ثار من أجلها الشعب التونسي.. فهل أن حماية الأمنيين تتطلب ردع وسائل الإعلام وتكميم الأفواه والتهديد بالعقوبات السجنية على المتظاهرين باسم حماية السر الأمني.. ام بتوفير المعدات الأمنية وتجهيز القوات الحاملة للسلاح تجهيزا جيدا وتدعيم وسائل العمل واليقظة والاستعلام وتعزيز حماية المنشآت والمراكز الأمنية والعسكرية وخاصة تقنين التعويضات المادية والتأمين ضد حوادث الشغل وتعزيز المكاسب الاجتماعية والمادية التي تحفظ كرامة الأمنيين وتقيهم من التجاوزات..؟ عقوبات مشددة وقمع للحريات.. يمهد مشروع القانون الذي اعدته وزارة الداخلية في أفريل 2015 وتطالب به النقابات الأمنية لعودة أشكال جديدة من القمع والتعدي على الحريات وهذه حقيقة يجمع عليها كل من اطلع على مشروع القانون - ولمن لا يعرف محتواه- فهو يتضمن عقوبات مشددة بالسجن وغرامات مالية متنوعة ذكرت في جل فصوله ( حوالي 14 من جملة 20 فصلا تتحدث عن المنع والزجر والعقوبات والتهديد بالويل والثبور..) في حين ان الفصول التي تتحدث عن الحماية الاجتماعية والشغلية والتعويض على الأضرار البدنية والمعنوية تكاد تكون منعدمة في مشروع القانون باستثناء فصل وحيد وهو الفصل 17 الذي يتحدث عن «تكفل الدولة بجبر الأضرار المادية اللاحقة بمحل سكنى عون بمحتوياته أو بوسيلة تنقله، نتيجة الاعتداء وتحل الدولة محله في المطالبة باسترجاع قيمة التعويضات من مرتكب الاعتداء». والأحكام الغريبة التي وردت في مشروع القانون ليس لها علاقة مباشرة بحماية الأمنيين بشهادة خبراء وسياسيين وجامعيين ونشطاء بالمجتمع المدني بل هو يمنح سلطات جديدة لوزارة الداخلية يمنحها حق المنع والتضييق على الإعلاميين والمواطنين في الحق في المعلومة والتظاهر وحرية التعبير وتغطية التظاهرات والأحداث الأمنية.. ولا يختلف اثنان في حق الأمنيين والعسكريين والقوات الحاملة للسلاح بمختلف اسلاكها في الحماية القانونية من الاعتداءات الإجرامية او الإرهابية سواء كانت فردية منعزلة او جماعية منظمة.. كما من حقهم على السلطة التنفيذية والتشريعية توفير أسباب الحماية الاجتماعية لأسرهم وذويهم وتعويضهم المادي والمعنوي في حال حصول أضرار بدنية او خسائر مادية وحتى في حالة الوفاة.. مثير للجدل.. مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات المسلحة اثار حين تم عرضه على مجلس نواب الشعب قبل عامين جدلا واسعا داخل الأوساط الإعلامية والحقوقية واحزاب سياسية ومنظمات وطنية.. على خلفية ما تضمنه من احكام قد تهدد مكسب حرية التعبير والإعلام وتمنح صلاحيات واسعة وسلطة تقديرية للأمنيين ووزارة الداخلية باسم حماية الأمن الوطني واعوان الأمن.. مما دفع رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر في تلك الفترة ( في جوان 2017) إلى التصريح بأن مشروع القانون لن يمر في صيغته الأصلية بل سيتم ادخال تعديلات ضرورية عليه تكفل احترامه الحقوق والحريات الاساسية التي نص عليها دستور تونس الجديد.. وفعلا تم سحب مشروع القانون للتعديل والمراجعة لكن لم نسمع عنه شيئا منذ ذلك التاريخ.. وما يؤكد ان مشروع القانون المعروض لا يمكن ان يمر دون نقاش او تعديل، وأن مكتب مجلس نواب الشعب برئاسة محمد الناصر واع بخطورة الأحكام المقترحة فيه، تجديد الناصر تصريحه يوم الأربعاء المنقضي بأنه سيتم عقد ندوة مع منظمات المجتمع المدني لدراسة مقترحاتهم بخصوص مشروع القانون قصد الوصول الى صيغة توفق بين حماية رجال الامن وحماية حقوق الانسان.. نقابة الصحفيين كانت من ابرز المنظمات التي عبرت عن رفضها القطعي لمشروع القانون المتعلق بزجر الاعتداء على الأمنيين ودعت الى سحبه، واعتبرته مشروعا مناقضا في اغلب فصوله لروح الدستور ومعاديا لحرية الصحافة وحرية التعبير. وانتقدت مشروع القانون لتضمنه أحكاما «تؤسس لدولة ديكتاتورية بوليسية» من خلال عودة العقوبات السالبة للحرية في مجال الصحافة التي تصل الى عشر سنوات سجنا بتهم فضفاضة مثل كشف أسرار الأمن الوطني، وغياب التنصيص على حقوق الصحفيين والتضييق على النشر بالتراخيص المسبقة، وضرب حرية التعبير من خلال تجريم حق التظاهر وتشديد العقوبات على القائمين بذلك باسم تعطيل السير العادي للعمل .. محاولة سيطرة رفض منظمات وطنية للنسخة الأصلية لمشروع القانون نابع اساسا من امكانية انحرافه عن الغايات الرئيسية من وضعه مما يؤكد وجود نية مبيتة من قبل وزارة الداخلية على محاولة تمرير أحكام مهددة لمبادئ حرية التعبير والرأي، حيث انتقل الموضوع من محاولة وضع حد للفوضى والتسيب بعقاب الاعتداءات الواقعة على حاملي السلاح ومقراتهم وتجهيزاتهم وعائلاتهم إلى محاولة لبسط السيطرة المطلقة للأجهزة الأمنية والعسكرية على المحيط العام وعلى تداول المعلومة وبالتالي على الحريات ومن بينها حرية الصحافة بدعوى منع الاعتداء على أسرار الأمن الوطني خاصة صلب الباب الثاني من المشروع.. غياب الدقة والوضوح أغلب فصول مشروع القانون غامضة مما يجعلها قابلة للتوسع المفرط في تأويلها ومن شأن تطبيقها أن يحوّل أي حادث عرضي أو خلاف بين عون حامل للسلاح ومواطن عادي إلى عملية مجرّمة وتدخل ضمن مجال تطبيق هذا القانون (الفصول 10 و11 وخاصة 12 المتعلق بجريمة تحقير القوات المسلحة).. ويقنن المشروع حماية الأمنيين ويسهل لهم عملهم لكن المشكلة تكمن في امكانية اعتماد بعض فصوله في التضييق على الحريات. على غرار الفصول 4 و5 و6 التي تجمع بين الطابع الزجري والفضفاض وغير الدقيق بالإضافة إلى العقوبة الشديدة (10 أعوام مع إمكانية مضاعفتها) كما أن الصحفي الذي يبحث عن المعلومة يصبح بمقتضى مشروع القانون مهددا بالسجن مثله مثل الأمني الذي أطلعه عليها ويصبح المواطن محروما من حقه في الحصول على المعلومة، كما أن مشروع القانون يضيق على حق الصحفيين في الحصول على المعلومة بفرض التراخيص المسبقة (الفصل 7). وكان على وزارة الداخلية أو رئاسة الحكومة اعداد مشروع قانون يكفل للأمنيين حقوقهم الشغلية، وإلى الحماية والتغطية الاجتماعية الخاصة عن طريق مقاربة قانونية تعيد الثقة بين المواطن وعون الأمن وتأخذ بعين الاعتبار المبادئ الكونية للدستور خصوصا ما يتعلق بحق التظاهر والتعبير والإعلام الحر.. على حد تعبير الخبير في القانون الدستوري قيس سعيد..