منذ إحداثها، لم يهدأ الجدل أبدا حول هيئة الحقيقة والكرامة، هذه الهيئة التي شهدت انسحابات وواجهت انتقادات لاذعة من أحزاب وسياسيين وكذلك من ضحايا ومن جمعيات حقوقية، كما واجهت انتقادات شديدة من المؤرخين ومن الباحثين الذين رأوا أن الهيئة لم تقم بدورها في حفظ الذاكرة الوطنية وفي إبراز الحقائق، عملية الاستماع أوّل أمس لرئيسة الهيئة بلجنة الحقوق والحريات على خلفية النقاش حول قانون الميزانية، مناسبة لعودة الجدل حول عمل الهيئة التي تستعدّ لتنظيم جلسة استماع جديدة لضحايا أحداث الرشّ بسليانة في 24 نوفمبر الجاري. المؤرّخ والباحث فيصل الشريف وعضو «هيئة ردّ الاعتبار للتاريخ الوطني» والتي أتت كردّ فعل من بعض المؤرخين المؤسسين للهيئة عمّا وصفوه ب»عبث البعض بوقائع التاريخ» ومنهم سهام بن سدرين، كما رأى ذلك فيصل الشريف الذي تحدّث ل»الصباح» عن مدى التزام الهيئة بحفظ الذاكرة الوطنية والانحياز للوقائع قصد الوصول لحقائق تاريخية «ثابتة» والتي لا تقبل الدحض. «الضحايا.. هل كانوا فعليا ضحايا؟» المؤرّخ والباحث في تاريخ الحركة الوطنية فيصل الشريف، قال في تصريح ل»الصباح» أن هناك مجموعة من المؤرخين قاموا بإحداث «هيئة لردّ الاعتبار للتاريخ الوطني» وذلك بعد معاينتهم لمدى محاولات البعض العبث بالوقائع التاريخية، مشيرا في ذلك لهيئة الحقيقة والكرامة والتي قال عنها فيصل الشريف أنها تحاول «صياغة وقائع تاريخية وفق توجهات ايديولوجية» ومن بين المؤرخين المشاركين في هيئة ردّ الاعتبار للتاريخ الوطني نجد خالد عبيد وعادل بن يوسف. وحول مدى التزام هيئة الحقيقة والكرامة بدورها في توفير مادة للمؤرخين لإعادة صياغة جملة من الوقائع التاريخية، قال فيصل الشريف «سهام بن سدرين ومن خلال هيئتها تقول أنها تريد الوصول إلى حقائق تاريخية حول ما حصل مع ردّ الاعتبار للضحايا، ونحن نقول لها أن ماهية البحث التاريخي هو البحث في الوقائع قصد محاولة الوصول إلى الحقائق، والوصول إلى هذه الوقائع لا يقتصر على سماع شهادات الضحايا بل يتطلّب جهدا حقيقيا في التوصّل الى الوثائق والى الارشيفات، وهي كلها متوفّرة في الفترة التي يغطيها عمل الهيئة وعادة هذه المهمة هي من صميم عمل المؤرخين غير أن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة خيّرت اقصاء المؤرخين من الهيئة، فكيف لهيئة تبحث في الذاكرة الوطنية لا يكون صلب أعضائها مؤرّخ؟ وبسؤالنا عن الأسباب التي دفعت رئيسة الهيئة الى استبعاد المؤرخين، قال فيصل الشريف «طبعا الأسباب واضحة ولا يحتاج الأمر الى فطنة فرئيسة الهيئة أرادت صياغة وقائع تاريخية بغايات ايديولوجية وليس بخلفية قراءة تاريخية، تنصف الوقائع، ثم انها عندما تتحدّث عن ضحايا وعن التعويضات، فان السؤال المطروح بإلحاح أي ضحايا تقصد؟ ومن هم هؤلاء الضحايا؟ فقراءة التاريخ واستخلاص الوقائع لا يكون بصفة اعتباطية بل له قواعد وأبجديات عمل تبدأ بالوثائق والارشيف وتمرّ بالشهادات ولا يتم صياغة التاريخ وفق روايات محكومة بدوافع ذاتية من أصحابها، ثم هل تم التدقيق في هذه الروايات من حيث مدى انسجامها مع الوقائع ومع الحبكة التاريخية للحقب المتعاقبة لتاريخ تونس قبيل الاستقلال أو ما بعده، وبالتالي حتى الضحايا او من تصفهم سهام بن سدرين بالضحايا،لا بدّ من التأكّد ما اذا كانوا فعلا ضحايا..». وواجهنا فيصل الشريف، بحقيقة أن هيئة الحقيقة والكرامة أجرت 46 ألف جلسة استماع سرّية لضحايا قالت أنهم عايشوا حقبا مختلفة من التاريخ وأن هذا العدد من جلسات الاستماع مرتفع وبالتالي يمكن أن يكون مادة تاريخية هامّة، لكن فيصل الشريف قال «يمكن للهيئة أن تجري مائة ألف جلسة استماع ولكن هذا لن يغيّر في الواقع شيئا، فالاستماع للشهادات الشفوية له معاييره وقواعده حتى يتم اعتماده كقرينة على وقائع معينة، ولكن جلسات الاستماع التي تُشرف عليها الهيئة هي بمثابة جلسات «فرّغ قلبك» او جلسات للمعالجة النفسية حيث يمكن للشخص أن يتوهمّ احداثا أو يبالغ في سرد التفاصيل لأنه يدرك أن روايته كلّما زادها شحنة «درامية» كان الأوفر حظّا في الحصول على التعويضات، ومن أجل هذه التعويضات يمكن للشخص أن يختلق حتى القصص والوقائع ما دام ليس هناك من يتولّى مهمة التدقيق التاريخي في كل ما يقوله». وحول سؤال ما اذا كانت هذه الجلسات توفّر مادة تاريخية جيّدة للمؤرخين، قاطعني فيصل الشريف قائلا «قطعا.. أنا أنجزت كتابا حول تاريخ الجيش التونسي ما بين 1956 -1960 ورغم أنّي استعنت بشهادات شفوية لكن هذه الشهادات أخضعتها وجوبا الى عملية «التقاطع» مع الوثائق المتوفّرة والارشيفات في تلك الفترة وبالتالي الشهادات الشفوية لا يمكن أن تكون لوحدها مصدرا تاريخيا موثوقا». «وصمة عار..» وفي ما يتعلّق بصندوق الكرامة والذي هدفه ردّ الاعتبار وتعويض ضحايا الانتهاكات، والتي صرّحت أوّل أمس سهام بن سدرين أنها اتصلت بجهات أجنبية للبحث عن تمويلات لهذا الصندوق، وما اذا كان من «اللائق» ان تتوجّه الهيئة لجهات أجنبية لتمويل صندوق «كرامة» ضحايا الدولة والتي لها مسؤولية أخلاقية في تعويض الضحايا، قال الشريف» أولا وكما اسلفنا الذكر هؤلاء الضحايا من هم وهل هم فعلا ضحيا؟، ثم أن البحث عن الأموال بدعوى التعويض وجبر الضرر بهذه الطريقة مسألة غير أخلاقية وغير لائقة بالدولة بل هي وصمة عار في جبين رئيسة الهيئة، التي أعتقد أنها صرّحت بذلك للضغط على الحكومة لتمكينها من اعتمادات مالية اخرى، ثم إن «ضحايا سهام بن سدرين «معرفون ويمثلون اتجاه فكريا وايديولوجيا بعينه». وقد علّق فيصل الشريف على الاعتمادات التي رصدتها الدولة للهيئة والتي ناهزت ال46 مليون دينار باعتراف سهام بن سدرين، قائلا «ان هذه الأموال ذهبت هباء منثورا، وأنا أتحدّى سهام بن سدرين أن تثبت حقيقة تاريخية واحدة». منية العرفاوي عادل المعيزي ل«الصباح»: جلسات الاستماع ليس من مهامها كتابة التاريخ والدولة «غائبة» عن تمويل صندوق التعويض طلب تمويلات أجنبية لصندوق التعويض وردّ الاعتبار واخضاع الوقائع التاريخية لاعتبارات فكرية وايديولوجية، هي آخر الاتهامات التي تواجه هيئة الحقيقة والكرامة، وفي التصريح التالي ل»الصباح» ردّ عضو الهيئة عادل المعيزي على كل هذه الاتهامات. حول تمويل صندوق التعويض يقول عادل المعيزي «نصّ قانون العدالة الانتقالية في الفصل 41 أن يُحدث صندوق يطلق عليه صندوق «الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد تضبط طرق تنظيمه وتسييره وتمويله بأمر»، وبالتالي فان احداث وتمويل هذا الصندوق هو من مشمولات السلطة التنفيذية وقد اتصلت هيئة الحقيقة والكرامة بالجهات المعنية كالحكومة ووزارة المالية ووزارة العلاقات مع الهيئات الدستورية وتوصّلت لصيغة لإحداث هذا الصندوق ولكن الاشكال بقي متعلّقا بتمويل هذا الصندوق وتفاجأنا بغياب تمويل الدولة لصندوق الكرامة وردّ الاعتبار للضحايا ولكن الهيئة تحمّلت مسؤوليتها وباعتبار أن قانون صرف التعويضات تراعى فيه التقديرات المخصّصة للتعويضات ويؤخذ بعين الاعتبار تنفيذ هذه التقديرات فان البحث عن مصادر تمويل أجنبية للصندوق ومساعدة الدولة في ذلك له شرعية. وهذه الشرعية متأتية من كون هذه الدول الأجنبية منحت تونس في فترة الاستبداد قروضا ولم تراقب كيفية صرف هذه القروض التي خدمت منظومة الفساد، وقد اقترحت شخصيا داخل مجلس الهيئة حتى تكون الدولة معنية بهذا التمويل الأجنبي بشكل مباشر أن يكون التمويل في شكل جدولة الديون الخارجية للدولة وفي المقابل تتكفّل الدولة بتمويل الصندوق». كما أشار عادل المعيزي إلى أن الجهات التي يمكن أن تموّل الصندوق يمكن أن تكون منظّمات غير حكومية كما يمكن أن تكون دولا. وحول المؤاخذات التي تواجه الهيئة في علاقة بالوقائع التاريخية وفي علاقة بحفظ الذاكرة الوطنية قال عادل المعيزي إن «جلسات الاستماع العلنية ليس مهمتها صياغة أو كتابة التاريخ وانما فسح المجال لأصوات الضحايا ليعبّروا عمّا تعرّضوا له من انتهاك..». ويضيف المعيزي «لكن ليتأكد الجميع أن كل من مرّ في جلسات الاستماع تم التأكّد أنهم تعرّضوا لتلك الانتهاكات وأن آثار ذلك تبدو بادية على أجسادهم وعلى نفسيتهم وعلى عائلاتهم.. وتبقى مسألة كتابة التاريخ من مشمولات المختصين عندما تنهي الهيئة أعمالها وتسلّم تقريرها لهيئة تُعنى بحفظ الذاكرة الوطنية..».