بقلم :فوزي الجلاصي متصرف عام بأملاك الدولة وباحث في القانون - ننشر الجزء الثاني من دراسة قانونية لفوزي الجلاصي المتصرف العام بأملاك الدولة والباحث في القانون حول عقود كان قد ابرمها ديوان الأراضي الدولية. ب)-من حيث الأصل : اقتضت أحكام الفصل الثاني من م ا ع أن أركان العقد الذي يترتب عليه تعمير الذمة هي: - أهلية الالتزام والإلزام -التصريح بالرضا تصريحا معتبرا - أن يكون المقصود من العقد مالا معينا يجوز التعاقد عليه - أن يكون موجب الالتزام جائزا فهل استوفت عقود 67/68 أركانها وشروط انعقادها الأصلية لتكون صحيحة معمرة للذمة؟ بالتمعن في تلك العقود يتضح أن عملية التفويت من قبل ديوان الأراضي الدولية – البائع المفترض - استندت - بالأساس – إلى أحكام الأمر عدد 129 لسنة 1964 الصادر في 11 ماي 1964( المتعلق بضبط شروط شراء العقارات والتفويت فيها من طرف ديوان الأراضي الدولية ) التي رخصت له – بموجب الفصلين الأول والثاني – في شراء العقارات اللازمة لنشاطه ، كما رخصت له في التفويت بشروط في العقارات التي أصبحت ملكا له . فهل يصح اعتماد أحكام الأمر المذكور كأساس للتعاقد في ضوء ما أوردته نصوص أخرى نافذة زمن عملية التعاقد؟ فقد اقتضى الفصل الأول من القانون عدد 5 لسنة 1964 المؤرخ في 12 ماي 1964 ( المتعلق بملكية الأراضي الفلاحية في تونس) صراحة انه «ابتداء من صدور هذا القانون لا يمكن أن يملك الأراضي الصالحة للفلاحة إلا الأفراد من ذوي الجنسية التونسية أو الشركات التعاضدية التي يقع تأسيسها طبقا لأحكام القانون عدد 19 لسنة 1963 « . وواضح من أحكام القانون المذكور أنها لا تقر بملكية الأراضي الفلاحية إلا للتونسيين (أفراد) وللتعاضديات. كما أن هذا التعداد ورد على سبيل الحصر والتحديد، وبالتالي فمن لم يرد ذكره بالفصل المذكور يحجر عليه التملك بالأراضي الصالحة للفلاحة . فما هي وضعية ديوان الأراضي الدولية من كل ذلك؟ استنادا إلى ما أورده الفصل الأول أعلاه يتبين أن ديوان الأراضي الدولية لم يرد ذكره - ضمن أصحاب حق ملكية الأراضي الفلاحية - وبالتالي فانه يحجر عليه قانونا التملك بأرض فلاحية ، وطالما لا يمكنه التمتع بذلك الحق فلن يكون بوسعه التصرف فيه ( بالتفويت أو بغيره ) ، عملا بقاعدة الفصل 551 مدني التي اقتضت صراحة أنه «لا يجوز لشخص أن يمنح غيره أكثر مما لنفسه من الحقوق». ولكن ماذا لو كان الديوان مالكا لأراض فلاحية ، قبل صدور القانون المذكور؟ يبدو أن مشرع 1964 قد تنبه لذلك بالنظر إلى أحكام الفصل الثالث من القانون عدد 5 التي أوردت صراحة « تحال إلى الأملاك الخاصة للدولة جميع الأراضي الفلاحية التي لا تكون في احد الصنفين المبينين بالفصل الأول أعلاه ..» وواضح أنها أحكام وردت في صيغة عامة وشاملة (جميع) وعلى سبيل الإقصاء (التي لا تكون في احد الصنفين) بمعنى أن ما كان خارج التصنيف المشار إليه فانه يحال وبحكم القانون إلى الدولة (الملك الخاص)، بما في ذلك الأراضي التي على ملك الديوان، إن وجدت. ولكن بالمقابل فان عقود 67/68 استندت في إبرامها إلى أحكام الأمر عدد 129 لسنة 1964، التي تخول الديوان الشراء والبيع فهل لأحكام هذا الأمر أن تنازع مقتضيات القانون عدد 5 لسنة 1964 وكيف من الممكن حسم الإشكال المتعلق بتنازع هذين النصين ؟ فمن حيث الطبيعة والمكانة في السلم التشريعي فالثابت أن النص عدد 129 هو أمر في حين أن النص عدد 5 هو قانون وبالتالي فان العلوية والأولوية في التطبيق تكون لنص القانون عدد 5 طالما انه أقوى نفوذا، إعمالا للمبادئ التي تسوس منظومتنا التشريعية . يضاف إلى ذلك أن أحكام القانون عدد 5 قد صدرت لاحقة في الزمن وعملا بقاعدة الفصل 542 مدني التي اقتضت أن « لا تنسخ القوانين إلا بقوانين بعدها إذا نصت المتأخرة على ذلك نصا صريحا آو كانت منافية لها أو استوعبت جميع فصولها « فإن أحكام القانون عدد 5 تكون قد استوعبت وألغت ضمنيا أحكام الآمر عدد 129 لسنة 1964 ، وبالتالي فان ما أعلن عنه بأمر سحب بقانون ، وبالنتيجة ، تكون أحكام الأمر المذكور قد نسخت – في المهد – ومن ثم فلا يصح اعتمادها سندا للتعاقد ،طالما أن المشرع محمول على عدم التشريع جزافا . وعليه وبالنظر إلى أن الديوان ليست له صفة التعاقد باسم الدولة ، طالما أن له ذمة مستقلة ويعد تاجرا في تعامله مع الغير ( تطبيقا لأحكام الفصل الأول من المرسوم عدد 15 لسنة 1961) ، ولا أهلية التملك (بموجب التحجير)، فان من شأن ذلك أن يجعل حقوقه على موضوع البيع غير ثابتة بل ومنتفية قانونا بما يجعل تلك العقود (67/68) التي فوت بموجبها بالبيع في أراض فلاحية، مختلة ومآلها البطلان عملا بأحكام الفصلين 2 و325 مدني (فقرة ثانية أولا) . علاوة على ذلك فان انتفاء حقوق الديوان – قانونا – للتملك بموضوع البيع تجعله إزاء مانع قانوني واستحالة قانونية لنقل ملكية المعقود عليه ، على معنى أحكام الفصل 64 من م ا ع التي اقتضت انه «يبطل العقد إذا كان على شيء أو عمل غير ممكن من حيث طبيعته أو من حيث القانون»، ما يجعل العمليات الصادرة عن ديوان الأراضي الدولية، بعد صدور القانون عدد 5 لسنة 1964 والتي موضوعها إحالة أراض دولية فلاحية، باطلة وعديمة الأثر، ما يحول قانونا دون تناولها كإطار أو سند ناقل للملكية ، ما يجعلها بالتالي غير قابلة للترسيم بالسجل العقاري، بدليل أن المشرع تدخل لاحقا بموجب القانون عدد 56 لسنة 69 المتعلق بإصلاح الأوضاع الفلاحية ليوسع من قائمة أصحاب حق ملكية الأراضي الفلاحية ، و ليعلن بالفصل الأول انه « لا يمكن أن يتمتع بحق ملكية الأراضي الصالحة للفلاحة إلا الأشخاص الماديون .. أو التعاضديات أو الذوات المعنوية التي لها صبغة عمومية أو شبه عمومية». ويخلص من كل ذلك أن العقود التي موضوعها إحالة أراض فلاحية – بما فيها عقود 67/68 - الصادرة عن ديوان الأراضي الدولية، في ظل القانون عدد 5/64 وقبل صدور القانون عدد 56 /69 – على الأقل – تعد باطلة من أصلها و في حكم المعدوم وليس من شانها أن تولد أثرا ناقلا للملكية ، ما يرجح أن هذه العقود قد ولدت ميتة ، وبالتالي فقد انتفى موجب ترسيمها أو إشهارها بالسجل العقاري . فكيف تعاملت المحكمة العقارية مع تلك العقود؟ قبل استعراض ذلك يبدو من المتجه التطرق إلى بيان الجهة صاحبة الاختصاص لفض النزاعات المتصلة بتلك العقود .. )يتبع(