انتهت في وقت متأخر مساء أول أمس الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى تونس ثالث وآخر محطة في جولته الإفريقية التي شملت كذلك السودان والتشاد. جولة أثارت جدلا مثيرا حول طموحات الرئيس التركي في القارة السمراء قبلة القوى الاقتصادية الكبرى التي تبحث لها عن موطئ قدم في السوق الإفريقية الواعدة التي تمثل أكثر من مليار ونصف نسمة مرشحة للارتفاع بحلول 2050. المثير أن أردوغان الذي اختار تتويج نهاية العام الحالي 2017 بجولة إفريقية يعد صاحب الرقم القياسي بين رؤساء العالم في زياراته الى دول القارة السمراء منذ فوز حزب العدالة والتنمية بالسلطة حيث أن في رصيده نحو 28 زيارة الى إفريقيا ما يعني انه زار نحو نصف دول القارة. اختيار أردوغان هذا المرة في جولته ثلاث دول وهي السودان والتشاد وتونس التي تجمعها حدود مشتركة مع ليبيا، الى جانب مصر والجزائر والنيجر، دفع أغلب الخبراء الى التوقف عند هذه المسألة واعتبار أن عين أردوغان عمليا تتجه الى هذا البلد رابع أكبر بلدان إفريقيا خاصة بعد أن أعادت انقرة فتح سفارتها في ليبيا الى جانب تعويلها مستقبلا على الفوز بنصيب وافر من عقود اعادة الاعمار في هذا البلد حالما تجد التسوية السياسية لها موقعا على الارض.. القوة الناعمة.. أردوغان العائد الى إفريقيا معززا بصلاحيات رئاسية موسعة بعد الاستفتاء على الدستور لا يخفي طموحاته الكبيرة وحنينه لإحياء ارث العثمانيين على مناطق نفوذهم التاريخية، ولكنه توخى في ذلك سياسة القوة الناعمة وفق المصطلح الذي أطلقه جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع في حكومة بيل كلينتون، والتي تعتمد الاغراءات بكل الوسائل المتاحة من مساعدات اقتصادية وتنموية وعسكرية وثقافية واستثمارات وغيرها... وتعكس جولته أردوغان الأخيرة حسابات وطموحات صاحبها السياسية والاقتصادية في المنطقة، فهو اذ يتبع خطى قادة كل من فرنسا والصين واليابان، يسعى لتأكيد على انه قادر على التحرك في ساحات الكبار، ويعكس بذلك تطلعات تركيا في المنطقة حاضرا ومستقبلا. وفي ذلك رسالة، لا تخفى على مراقب، الى الاتحاد الاوروبي الذي ما انفك يعرقل مساعي تركيا للانضمام الى صفوفه بالنظر إلى ملف الحريات التي تراجعت خاصة بعد الانقلاب الفاشل في 16 جويلية 2016 في تركيا، وتعدد مظاهر استهداف الاعلاميين والمفكرين والنشطاء والمعارضين، فضلا عن عزل وملاحقة ومحاكمة الاداريين والجامعيين والقضاة، الامر الذي فاقم الانتقادات الموجهة للنظام في تركيا بأن له من الخيارات والبدائل ما يمكن أن يدعوه للاستغناء عن طلب الانضمام للاتحاد الاوروبي والاكتفاء عضوية الحلف الاطلسي.. ومن هنا فإن وقفة عند المحطات الثلاث لجولة أردوغان تؤكد انه برغم المكاسب التي تحققت له خلالها، فإن صورته داخليا ما انفكت تواجه الاتهامات بالسعي للتراجع عن مسار تركيا العلمانية الحداثية التي بنيت على أنقاض انهيار الامبراطورية العثمانية، التي يبدو أن أردوغان يحلم بإعادة بعثها الى الوجود مستفيدا من التحولات التي حدثت في دول الربيع العربي في السنوات القليلة الماضية وصعود نجم الاسلام السياسي بدعم قوى اقليمية ودولية راهنت على هذا الخيار بعد اندلاع أول شرارة الربيع العربي من تونس في 2011. والارجح أن جولة أردوغان الإفريقية قد تفتح أعينه على واقع جديد في المنطقة وتحديدا في تونس مع افول نجم الاسلام السياسي وانهيار الرهان على تجربة ورقة الاسلام السياسي والحكم تباعا في مصر وتونس وليبيا وحتى في اليمن وسوريا رغم ان الحرب لا تزال مستمرة.. والارجح ايضا أن أردوغان سيكون مضطرا الى مراجعة خياراته في المنطقة بعد اطلاعه على المشهد السياسي في تونس الذي اختلف عما وجده في 2013 خلال آخر زيارة له الى تونس. ولا شك أنه أدرك ايضا أن حرية الرأي والتعبير مسألة لا تقبل التراجع او التفريط في التجربة التونسية. وسيتذكر انه بعد ان رفع شعار رابعة وهو يدخل القصر الرئاسي بقرطاج وجد امتعاضا من شريحة هامة من التونسيين حتى أن الجانب التركي سارع بالتوضيح بأنه شعار حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا «علم واحد، أمة واحدة، بلد واحد، حكومة واحدة»... وسيجد أردوغان بعد ذلك من الرئيس الباجي قائد السبسي ملاحظة رشيقة «بأن تونس لها راية واحدة لا رابعة ولا خامسة»... تذكير مهم لا ينتقص شيئا من زيارة الدولة التي يقوم بها الرئيس التركي، ولكن من شأنه ان يوضح ان تونس اختارت النأي بنفسها عن الاسلام السياسي وإنها اعتمدت دستورا مدنيا حداثيا ينتصر للحريات ويفصل بين السلطات.. على أن الحقيقة أن ما سبق لا ينفي ان أردوغان يعود من جولته الإفريقية غانما بما تحقق له من اتفاقيات ومغانم، والامر لا يتعلق بما تحقق له في السودان من اتفاقات عسكرية فحسب، لا سيما بعد فوزه بمشروع اعادة اعمار وترميم جزيرة سواكن السودانية، ولكن ايضا بعد موافقة التشاد قبول طلبه تحويل شبكة مدارس غريمه فتح الله غولن الى مظلة وقف «معارف» التابع لوزارة التربية التركية لبناء وإدارة المدارس في الخارج. ووقف معارف له 32 مدرسة تركية في إفريقيا وهي طريقة أخرى لتمدد «العدالة والتنمية» في القارة عبر البرامج والمؤسسات التربوية... التشاد التي تبقى على لائحة القائمة السوداء لواشنطن - التي تمنع مواطنيها من دخول امريكا - وبالإضافة الى موقعها الحدودي مع ليبيا، فإنها تجمع احتياطات مهمة من الذهب واليورانيوم والنفط وتبحث عن شراكات للاستفادة من ثرواتها النفطية الكبيرة.. أردوغان والفوز بجزيرة سواكن ومن السودان ايضا حيث منح أردوغان الرئيس البشير فرصة كسر العزلة المفروضة عليه منذ سنوات، فإن الرئيس السوداني لم يخيب آمال ضيفه وصرح أمام الصحفيين بأن بلاده تنظر الى تركيا باعتبارها «آخر معاقل الخلافة الاسلامية».. الا ان من شان الاتفاق بين الرئيسين السوداني عمر البشير والتركي رجب طيب أردوغان، بتسليم جزيرة «سواكن» السودانية الاستراتيجية في البحر الأحمر إلى تركيا كي تتولى إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية غير محددة ان يثير انشغال دول المنطقة لاسيما مصر والسعودية بالنظر الى ما تكتسيه من أهمية استراتيجية لأمن البحر الأحمر، خاصة وان تركيا لها قاعدة عسكرية في الصومال ويبدو انها ستكون المنطلق لتدريب الجيش السوداني... وهو ما اكده وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو الذي يرافق أردوغان في جولته في تصريحاته بالقول انه «تم توقيع اتفاقيات بخصوص أمن البحر الأحمر وإن تركيا ستواصل تقديم كل الدعم للسودان بخصوص أمن البحر الأحمر»، وإن أنقرة «مهتمة بأمن السودان وإفريقيا والبحرالأحمر.. لديها قاعدة عسكرية في الصومال وتوجيهات رئاسية بتقديم الدعم للأمن والشرطة والجانب العسكري للسودان، وتطوير العلاقات في مجال الصناعات الدفاعية». قائمة الاتفاقات الموقعة بين الخرطوموأنقرة قد توحي بتحالف جديد تعزز بمقتضاه تركيا موقعها في المنطقة ويحصل معها السودان على دعم سياسي قد يحتاجه البشير إذا اختار الترشح مجددا للانتخابات القادمة كما بدأ يروج له.. المعارض السوداني الصادق المهدي زعيم حزب الأمة انتقد الاتفاق السوداني التركي واعتبر ان الفترة العثمانية شهدت ارتكاب مظالم كثيرة في حق السودان كما انتقد التجربة الاخوانية في بلاده واعتبر أنها وقعت في أخطاء تستوجب مراجعة لنهجها.. أردوغان والأسد من تونس اختار أردوغان مهاجمة الرئيس السوري بشار الاسد بعد أشهر من التهدئة ليستعيد ما كان يردده قبل سنتين من ان «الأسد إرهابي وقام بممارسة إرهاب الدولة ضدّ شعبه، وإن من المستحيل إحراز أي تقدم في مساعي السلام مع وجوده»... موقف لن تتأخر دمشق في الرد عليه ووصفه بالمغالطات.. موقف يحتمل أكثر من تفسير بالنظر الى توقيته وقد يكون محاولة للضغط على روسيا قبل مؤتمر الحوار المرتقب مطلع العام الجديد بأن مصير سوريا لا يحدده بوتين بمفرده، لا سيما فيما يتعلق بالملف الكردي أحد المواضيع الحساسة في تركيا.. وبقطع النظر عن الاتفاقات الموقعة بين تونسوتركيا في مختلف المجالات الامنية والاقتصادية والتجارية، يبقى ملف «الدواعش» والعائدين من بؤر التوتر بعد انتهاء الصراعات في سوريا والعراق من أكثر الملفات التي تشغل الرأي العام التونسي بالنظر الى ما يحتمله ذلك من مخاطر وما يستوجبه من استعدادات لاستباق المفاجآت. ويبقى موضوع المتورطين في تسفير الشباب والقنوات التي ساعدت في تمويل وتنظيم تلك الشبكات من الملفات الحارقة التي تنتظر مجلس نواب الشعب وما ستكشفه نتائج التحقيقات من حقائق عن دور الإسلاميين، وربما دور تركي في تسهيل عبور المقاتلين وتدريبهم... «لا رابعة ولا خامسة».. عبارة استوقفت التونسيين في زيارة أردوغان، وبعيدا عن تحميلها اكثر مما تحتمل، فقد اعلن معها الرئيس الباجي قائد السبسي قبوله دعوة نظيره إلى زيارة تركيا التي لم تحدد بعد.. زيارة مرتقبة قد تكون مهمة لوضع النقاط على الحروف وتفادي ما رافق زيارة أردوغان الى تونس من خلط وإخلالات وغياب للتنسيق المسبق في لقاء مجلس نواب الشعب، ولكن ايضا بشأن واقع الاسلام السياسي في تونس وفي الجوار الليبي في ظل كل السيناريوهات المحتملة في هذا البلد..