ليست عهد التميمي وحدها التي تشهد اليوم على أن ولادة جيل جديد لا يتسلل الخوف الى قلبه بات حقيقة لا مجال للتشكيك بشأنها.. عهد التميمي أيقونة بين أيقونات فلسطينية كثيرة قابعة بدورها في سجون الاحتلال الاسرائيلي الذي راهن على أن الكبار سيموتون والصغار سينسون، فإذا هو اليوم يستفيق على وقع صدمة توقعاته الكاذبة ورهانه الخاسر... صحيح أن اجيالا متعاقبة من الفلسطينيين من جيل النكبة والنكسة رحلوا، ولكن لا أحد من الجيل الجديد أسقط من ذاكرته القضية الأم.. إنه الجيل الذي تسعى سلطات الاحتلال الى الغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين من حياته حتى تحرمه من التعلم وتدفع به الى الموت البطيء جوعا وقهرا.. ولكن الغريب اليوم وما تعجز عن تفسيره الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة أن الجيل الجديد الذي لم يعرف اخبار النكبات المتتالية الا من روايات الاجداد وكتب التاريخ، مصرّ على التمسك بالحق، بل لعله اليوم يكشف عن إصرار مدهش وإيمان لا حدود له بقيمة الارض وأهمية الانتماء للهوية الفلسطينية... أمثال عهد التميمي - الطفلة الشقراء التي انتبه العالم لصورتها وهي ترفع يدها الصغيرة لتصفع جندي الاحتلال على وجهه - من الاطفال الذين يقبعون خلف الاسوار كثر وبينهم من احتفل بشمعته الثانية عشر في سجنه. وهو حال الطفل فادي أبو شادي الذي اعتقل قبل سنتين وهو في طريقه الى المدرسة بتهمة زعزعة الامن العام. فادي الذي اختطف من حضن والدته - وهو الذي لم يتعلم بعد بسط فراشه - يصنف في قوانين الاحتلال على أنه «خطر ارهابي يهدد أمن اسرائيل والإسرائيليين» الذين يرون في محفظته الصغيرة وما تحتويه من اقلام وكتب قنابل موقوتة.. هذا الجيل الجديد المحاصر في طفولته وفي كرامته وفي حقه في الحياة وحقه في التعليم بات مصدر ازعاج، ولكن ايضا مصدر احراج لسلطات الاحتلال التي لم تتوقع أن يكون على ما هو عليه من شجاعة وقوة إرادة وقدرة على تحمل كل ضروب القمع والتنكيل.. هؤلاء الأطفال كتب عنهم المراسل العسكري الإسرائيلي أورهلير أنهم لا يهابون الموت ما يستوجب الانتباه لهذا الجيل الذي لا يعرف خطوطا حمراء ولا يمكن ان يتوقف عند شيء... وقال في ذلك «كنت داخل إحدى مركبات الجيش، ولم أصدق أن أكثر من ألف فتى يلقون الحجارة والحارقات ويهتفون ضدنا. أحدهم ضرب باب العربة وفي يده حجر وكان يقول «افتح، افتح». وأضاف «غريب جداً هذا الجيل، لا يخاف، فعلى رغم إصابة سبعة منهم بالرصاص الحي، وعلى رغم كثرة الجنود، لم يشعر هؤلاء الفتية الصغار بالرعب».. صحيفة «معاريف» الاسرائيلية تكشف بدورها عن جيل فلسطيني ترعرع وهو لا يخاف الجنود الاسرائيليين.. وتعتبر أن موجة الاعتقالات اليومية هي التي تؤجل اندلاع الانتفاضة القادمة... انه جيل ثان من الانتفاضة، وعملية الهروب الى الأمام لن تساعد في استمرار الهدوء الى ما لا نهاية والانفجار قادم حتما.. ولكن اجمل ما يميز جيل عهد التميمي أنه جيل تحمل المسؤولية مبكرا وتعلم ألّا يعول على الانظمة والحكومات العربية التي أثبتت انها لا تستطيع شيئا لذاتها، وأنها أعجز من أن تنتصر لنفسها حتى تنتصر للشعب الفلسطيني وأن الحارس المتأهب على ابواب مغارة علي بابا في الدول النفطية الغنية منها أوهن في موقعه من بيت العنكبوت وأجبن من أن يكون مثل عهد التميمي في وقفتها وصمودها.. جيل لا يخاف هو أكثر ما يشغل الاحتلال الاسرائيلي مستقبلا، وهو أيضا ما يرهب الانظمة والحكومات العربية التي لا تعرف كيف تتصرف مع هذا التحدي الزاحف في مجتمعات لن يطول صمتها وخنوعها لما تتعرض له من خراب ودمار وقتل بطيء... انه جيل قادم قد يبدو للبعض بعيدا ولكنه قريب ومُصرٌّ على تحقيق أهدافه وأحلامه والتصدي للبلدوزر الذي يجرف معه كل شيء...