لعله من المفيد؛ أن أذكّر بأنّه من أبسط معاني الوفاء؛ هو شكر ذوي الفضل؛ إقرارا بفضلهم وآعترافا بجميلهم. ومن فضل الله علينا وداخل دروب الحياة وخوض عبابها العاتي؛ أن هدانا الله؛ لكي نتعرف على جهود صفوة من النساء الفضليات اللآئي امتزن بالنقاء والصفاء والإخلاص، وعشن على الصدق والشجاعة، وساعيات في الخير والاحتفاء بكل ما يعلي من شأن الوطن العربي ك:هدى شعراوي، وعزيزة عثمانة، وتحية عبد الناصر، وفدوى طوقان، ونازك الملائكة، وراضية الحداد، وفتحية مزالي وأضرابهن.. والحديث عن إحداهن وهي المناضلة فتحية مزالي؛ هو حديث ممتع وشائق.. وفيه نرى صورا من الوفاء النادر، التي طوت العمر مع فواصل الحياة ومساربها الصعبة وتياراتها المختلفة، وتمثل هذه الصور بعض الملامح لشخصية تونسية عاشقة لوطنها، ومدركة لمتطلبات بلادها، وإلى ما يوحي بخصوصيات شعب عرف الظلم، وكان عليه أن يتحدى المظالم ويتخلّص من العبودية. وعن بدايات هذا الطوق؛ كان السعي والكدّ في التعلّم... ويحدثنا عن هذه الطالبة الجادة الأديب محمد مزالي في كتابه: )ونصيبي من الحقيقة) والذي آختارها فيما بعد لتكون زوجة له: )..وفي باريس تعرفت في صلب جامعة الطلبة الدستوريين في فرنسا إلى الفتاة التي أجرت في جوان 1946 م بتونس مواد إمتحان الباكالوريا في الوقت نفسه الذي آجتزت فيه إختبارات هذه الشهادة؛ وكانت الصدف الألفبائية هي التي جمعتنا الإثنين في قاعة واحدة في»الليسي كارنو»؛ إذ كان آسم هذه الفتاة يبدأ بالميم مثلي:(فتحية المختار).. وكانت في ذلك الوقت محجبة تماما؛ مما جعل هيئتها تلك الوقورة تحمل زملاءها على الشعور بالإعتزاز والفضول معا:)من هي ومن تكون؟»زيادة على حصولها على أعداد أحسن منهم).... ويقول أيضا: )ومع الأيام والمشاركة في عديد الإجتماعات السياسية في إطار الشعبة الدستورية وملاحظة سلوكها في )مدرجات السربون(أعجبت أعظم إعجاب بتصرفها، وتعففها وتوقرها).... فتلك هي فتحية مزالي؛ التي هامت بالفكر والفلسفة والأخلاق والثقافة منذ طور النشأة. هي نبتة صالحة في واقع عصرها، ومن تراث مثار في ظل الحقائق وتقلبات الزمان والمكان!.. وهي مناضلة و)نصّ) في تجليات المكان والزمان في جهة بنزرت وفي عموم المدن التونسية، ولدى النسوة التونسيات. وبالرجوع الى دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية؛ رأيناها قد طبّقت ما ألح عليه عباس محمود العقاد القائل عن سمة المؤمن الصادق:(المؤمن يظل فاعلا ومهموما بالتعبير الجميل عن الشعور الصادق).. وتلك هي ميزة من ميزاتها وفيما عبرت به، وفيما أضافته لوطنها من أعمال. وفتحية مزالي؛ هي مربيّة قديرة، وحافظت منذ صغرها على أن تكون المقياس والمرجع في كل ما جذب الناس وخدم قضايا بلادها. وممّا ينبغي التذكير به في هذا الشأن أيضا؛ أنها كانت قد تحصلت على الإجازة في)السربون) وذكاؤها كان محل إعجاب الجميع؛ إذ فازت ب)الإجازة في الفلسفة(؛ وهي الشهادة التي منحت لأول تونسية سنة 1952 م من)السربون)، وإثر تخرجها؛ باشرت التدريس كمدرسة لعلم النفس والإجتماع في بلادها، ثم هي -وعلى الصعيد الوطني – كان لها أدوار مهمة بطلب من السيدة بشيرة بن مراد، كما مثلت الاتحاد النسائي الاسلامي في)مؤتمر السلم)، وتلقت بعد المؤتمر برقية شكر من الزعيم صالح بن يوسف، وحظيت بمشاركات أخرى في )جمعية طلبة شمال افريقيا بباريس،(وفي لقاءات سياسية عديدة أشرف عليها الزعيم الحبيب بورقيبة، كما ساهمت في الإضرابات العمالية التي قادها النقابيون أثناء المعركة التحريرية. وعاشت فتحية مزالي على الدوام تستأنس بطموحات المرأة، وتنادي بإنصافها، فكانت بحق )نصا له أثر في ظل الحقائق التاريخية)... وودعنا هذه المرأة الفاضلة عشية يوم 13/2/2018م بقلوب خاشعة الى جوار قبر زوجها الراحل محمد مزالي بالمنستير؛ مستلهمين من الله الصبر، والدعاء إلى العلي القدير بالرحمة على كل من خدم هذا الشعب العظيم.. وطوبى للمتقين وللعاملين في سبيل خدمة هذا الشعب العظيم.