هل يحتاج التونسي إلى قانون مدون لرفض التطبيع مع الكيان الاسرائيلي؟ وهل أن العقلية التونسية معنية بهذه المسألة؟ وهل يمكن أن تكون من أوكد الأولويات المطروحة أمامه؟... لن نتردد في الاجابة بالسلب، وبرغم عدم توفر استطلاعات يمكن اعتمادها في هذا الشأن، يمكن الجزم بأن العقلية التونسية عموما غير معنية لا من قريب ولا من بعيد بمسألة التطبيع. بل أكثر من ذلك، فحتى بالنسبة لأغلب الشعوب العربية بما في ذلك تلك التي ترتبط حكوماتها رسميا باتفاقات مع الكيان الاسرائيلي (مصر منذ توقيع اتفاقية كامب دايفيد عام 1979، والأردن منذ إبرام اتفاقية وادي عربة في 2004)، لا يمكن الحديث عن تطبيع بأتم معنى الكلمة حتى عندما يتعلق الامر بالمجالات الثقافية والفنية او حتى الرياضية... تجريم التطبيع عنوان معركة قديمة جديدة ما أن تتراجع عن الاهتمام حتى تعود الى المشهد بأكثر قوة لتتحول الى موضوع للتجاذبات، وربما المزايدات أيضا، في المواعيد الانتخابية بين مؤيد ومعارض لهذا القانون الذي لم يجد له طريقا الى الدستور الجديد في 2014 رغم النقاشات المطولة التي خصصت لهذا الموضوع... ويبدو أن عودة الجدل المثير في المدة الاخيرة بشأن قانون تجريم التطبيع في تونس وما رافقه من تناقضات بين مؤيد ومعارض في مجلس نواب الشعب، مرتبطة بالدرجة الاولى - في قناعتنا - ليس بمخاوف من توجه نحو التطبيع المباشر أو المقنع مع الكيان الإسرائيلي، فتلك مسألة محسومة ولن تتحقق قبل أن تتحقق للشعب الفلسطيني أهدافه في السيادة وإعلان دولته على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ولكن - وهذا الاخطر - بموقف واضح ازاء القرار الظالم، الذي خرق كل المواثيق والاعراف الدولية، الذي اعلنه الرئيس الامريكي دونالد ترامب عندما قرر تقديم مدينة القدسالمحتلة هدية لإسرائيل والإعلان عن نقل سفارة بلاده من تل ابيب الى القدس... وهو ما شكل صفعة لكل العرب والمسلمين، بل ولكل الشعوب المؤيدة للسلام في الشرق الأوسط. قرار كان يفترض موقفا صارما وقويا للرد على هذا التعسف ولكن وللأسف كانت الردود الصادرة من مجلس الامن الدولي والامم المتحدة وجامعة الدول العربية، على أهميتها، لا ترتقي الى حجم التحدي وتداعياته على القضية التي يفترض أنها القضية الام او القضية الاولى المشتركة للشعوب العربية .. موقف ثابت في عقلية التونسيين عودة مسألة تجريم التطبيع الى السطح ليست من فراغ وهي محاولة لإحياء مشروع طرح منذ 2012 خلال المناقشات الحاسمة قبل صدور دستور الثورة، والتي انتهت بعدم إدراج البند 27 المتعلق بتجريم التطبيع بين بقية البنود. ويبدو أن حركة النهضة أدركت في حينها أن الامر قد يحمل في طياته الرسالة الخطأ لعديد الاطراف الفاعلة أمميا ودوليا في الترويج والتسويق للحركة، التي تتطلع للظهور بمظهر حزب سياسي مدني يصر على نفض جبة «الاخوان المسلمين» والخروج من دائرة هذا التصنيف بعد التراجع الحاصل في مسار تجربة الاسلاميين في الجوار الليبي وفي مصر، فضلا عن تعقيدات المشهد السوري والعلاقات مع إيران وتركيا... وبعيدا عن العودة للنبش في نص مشروع القانون الذي سيتلقفه اليساريون لاحقا وينفضوا عنه الغبار ويعودون لطرحه والبحث عن سند له في صفوف المجتمع المدني والتحركات الشعبية، فإن الحقيقة أن التعجيل او التأجيل في طرح مسألة تجريم التطبيع من عدمه لن يغير الكثير او القليل من موقف التونسي عندما يتعلق الامر بدعم القضية الفلسطينية في المحافل الاقليمية او الدولية. والامر لا يتوقف عند حدود موقع القضية تاريخيا لدى التونسيين منذ اربعينات القرن الماضي ولا ايضا بتبني تونس واحتضانها منظمة التحرير الفلسطينية ولا حتى باختلاط الدماء التونسيةوالفلسطينية في فلسطين وعمان وحمام الشط ولا بعودة أبو عمار لأول مرة من تونس الى اريحا ليمنح اكثر من مليون فلسطيني حق العودة الى وطنهم، ولكن بموقف ثابت في عقلية التونسي، وهو موقف رافض لظلم وجور الاحتلال، وبالتالي رفض متوارث ليس من دون وعي لرفض التطبيع بكل أشكاله وألوانه... ولو حاولنا البحث على مدى عقود طويلة من الظلم رافقت احتلال الاراضي الفلسطينية، فلن نجد للتطبيع موقعا في المشهد، وحتى ما سجل من أحداث معدودة لفنانين او مفكرين تورطوا في زيارات الى إسرائيل، فإنها كانت محدودة في الزمان والمكان ولا يمكن اعتبارها بوابة لتطبيع لا وجود له ... حركة المقاطعة العالمية (BDS) ولعله من المهم الاشارة الى خطوة سبقت محاولات تشريع قانون تجريم التطبيع والمتمثلة في حركة «بي دي اس» (BDS) أو حركة المقاطعة العالمية للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، التي يشترك فيها جامعون ومثقفون وسياسيون وباحثون من مختلف انحاء العالم والتي بدأت منذ 2005 احتجاجا على الجدار العازل وظلت ترفض السياسة العنصرية الاسرائيلية الى درجة باتت تزعج كيان الاحتلال بعد أن نجحت في حملتها للمقاطعة الاكاديمية والثقافية لإسرائيل وكسبت زخما في الجامعات الامريكية والبريطانية لا سيما في جهود مقاطعة البضائع القادمة من المستوطنات. وقد اعتبرت الحركة اسرائيل من اكثر المناطق خطرا على الصحافيين في العالم . سلاح ذو حدين الواقع أيضا أننا ازاء معركة طويلة وغير متكافئة وهي تحتاج لكل الجهود والافكار القادرة على الانتصار للضحية مقابل الجلاد أكثر مما تحتاج للخيارات الشعبوية والشعارات الحماسية التي سرعان ما يضيع صداها بمجرد تفرق الحشود... صحيح أن لا أحد يمكن أن ينكر احتمالات وجود ضغوطات من أطراف دولية فاعلة لا ترغب في تبني تونس كنموذج لدول الربيع العربي لهذا القانون.. وصحيح أيضا ان محاولات الدفع بالدول العربية للتطبيع المجاني مع الكيان الاسرائيلي ليست خفية على أحد ولن تتوقف أبدا.. ولكن ما وجب الانتباه له أنه برغم ما قد يحمله مشروع قانون تجريم التطبيع من مبررات في نظر مؤيديه لا بد من التنبه الى نقطة مهمة لم تتعرض للطرح المعمق ولم تحظ بالنقاش الكافي، وهي تتعلق بتداعيات القانون على الفلسطينيين في الداخل واحتمالات استغلاله من قوى الاحتلال لفرض حصار على الحصار الذي يطوق الفلسطينيين، وبالتالي غلق كل المنافذ على فلسطينيي الداخل للتواصل مع أي طرف غير ما تقرره حكومة الاحتلال. وقد لا نحتاج للتذكير بأنه لا مجال للفلسطينيين، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، للتنقل بين مدينة واخرى ولا للعبور بين المناطق ولا للوصول الى أية نقطة خارج الاراضي الفلسطينيةالمحتلة دون المرور عبر النقاط والحواجز العسكرية الإسرائيلية، والخوف كل الخوف أن تغيب هذه الحقيقة عن أنصار قانون تجريم التطبيع الذي يمكن ان يتحول الى سلاح ذو حدين يضاعف مآسي الفلسطينيين ويزيد من عزلتهم ويقطعهم عن بقية العالم ويتركهم فريسة لأسوأ وأبشع أنواع الاحتلال القائم في عالم اليوم.. وفي قناعتنا أن في هذا السبب ما يستوجب العودة الى مناقشة أدق تفاصيل قانون تجريم التطبيع والتوقف عند كل تداعياته حتى لا يمنح العدو الحبل الذي يتيح له مزيد خنق الضحية بسبب الانسياق الى العاطفة وعدم التأني في قراءة كل التداعيات الخطيرة... وفي كل ذلك يبقى الاهم أن عقلية التونسي بطبيعتها عقلية رافضة للتطبيع ومعادية لأعداء الحق الفلسطيني المشروع ولا تحتاج بأي حال من الاحوال الى نص قانوني لإعلان وممارسة هذا الرفض...