بقلم: شكري بن عيسى (*) عديدة هي المؤشرات والقرائن المادية الصلبة التي تصبّ في اتجاه قطع النهضة مع مبادىء القضية الفلسطينية، ومتظافرة كلها وتؤشّر على تدشين مرحلة جديدة لا تتبنى القضية سوى بشكل ضبابي وشعاراتي "صوتي"، ولعلّ أبرزها يتجلى في الحضور المتكرر لزعيم الحركة في عدة ندوات لمنظمة "الايباك" ذات النفوذ الاسرائيلي، رفض دسترة تجريم التطبيع في 2013 وبداية 2014، حضور النائبة إيمان بن محمد في جلسة البرلمان المتوسطي جنبا لجنب مع برلمانيين صهاينة، تهميش الغنوشي ذكر فلسطين في المؤتمر العاشر لحركته، و"تطييش" ممثل حماس القيادي البارز أسامة حمدان في الصفوف الخلفية وراء عبد الرحيم الزواري والهادي البكوش في نفس المؤتمر، تنصّل رئيس الحركة من الشهيد الرمز محمد الزواري في 2016، وتطاول الحمامي على كتائب شهداء الاقصى بتحميلها على "الوطنية 1" مسؤولية حماية طيارها التونسي، وحضور رفيق عبد السلام بوشلاكة المؤتمر التطبيعي الاقتصادي بقطر العام الفارط جنبا الى جنب مع نائب اسرائيلي. في المؤتمر التاسع للحركة أيام كانت الشعارات الثورية لها قيمة سياسية عالية، ويمكن أن تحشد الأصوات والمساندين، الحركة وضعت خالد مشعل في المنصّة الرئيسية، أمّا بعد ان تآكلت الافكار والمبادىء الثورية وتلقت الحركة عديد الضربات الداخلية والدولية، وتراءى لها أنّ اللاعب الدولي هو المتحكّم في الساحة الدّاخلية، تحوّلت جذريا واصبحت تارة في السرّ وطورا في العلانية تتصدى لكل ما له علاقة بالنضال والمقاومة الفلسطينية، حتى أنّ صديق الغنوشي الشخصي مدير قناة "الحوار" اللندنية الفلسطيني عزّام التميمي خرج من المؤتمر العاشر في 2016 خائبا، كاتبا نصّه الشهير الذي وصف فيه كيف "أن الشيخ راشد الغنوشي، زعيم الحركة، ذكر في كلمته بلدان العرب والمسلمين ونوه بقضاياه جميعا، إلا فلسطين". علي العريض رأس الحربة وطبعا كانت هذه الواقعة المعبّرة والفارقة خاصة وانها موجّهة نحو اللاعب الدولي، الذي كان مركّزا على مخرجات المؤتمر العاشر، حلقة محورية ولكن ضمن شبكة متلاحمة عبّرت عنها المواقف والافعال التي تجلّت في اعلى مستوى بالتصدي لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، واستقرّ التبرير خاصة فيما عبّر عنه نائب رئيس الحركة علي العريض في تدوينة طويلة على صفحته، قبل أن يعبّر عنه آخر الاسبوع المنقضي في حوار على جريدة "الشروق" ، مقدما مسوّغات "البراغماتية" و"العقلانية" و"المصلحة الوطنية" تحت عنوان ال Real-politik، مردفا الامر في المحصلة بثلاث مسوغات الأوّل برفع حجّة "ان الفسطينيين لم يطلبوا من اي دولة تجريم التطبيع"، والثاني وهو مرتبط بالأول على اعتبار أن "العالم العربي ضد التطبيع"، أمّا الثالث فهو "المشكلات" من هكذا قانون لتونس و"عزلها" بسببه "لأن فيه إفراد لتونس بشيء لا حاجة لها به" على حد قوله، خالصا الى أنّ الأمر فيه "مغامرة على صلاحيات تونس". وصوت علي العريض الصادح يرتفع في كل مرّة يطرح فيها موضوع تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتقدّم في اجراءات عرض مشروع قانون في الغرض على الجلسة العامة لمجلس النواب، وهذه المرّة تمّ اثر الحملة القوية في الصدد بعد قرار ترامب تحويل سفارة بلده لدى "اسرائيل" للقدس، وفي المرّة السابقة كان على الحملة الاولى بعد اغتيال الموساد الشهيد محمد الزواري، في تحدّ سافر للمزاج الوطني المتبني لتجريم التطبيع ولابسط قواعد الذوق السياسي، والعريض هنا يدخل على خط السفسطة واللعب بالكلمات، برفض التطبيع ولكن دون اصدار قانون لتجريمه، مع تبني خطاب "أوسلو" و"مدريد" في تبني منطق عدم المواجهة، ومنطق ان البلاد في ظروف صعبة وهي ضعيفة والتجريم سيزيد في انهيارها، وانه يمكن تفعيل رفض التطبيع عبر الاليات الحكومية والبرلمانية. مسوّغات متهافتة ولم يجب في أيّ من تدخلاته عمّا قامت به النائبة والقيادات النهضوية من تطبيع سياسي ودبلوماسي صارخ، كما لم يجب على ما صرّح به المغني قاسم كافي وقبله صابر الرباعي بنشر صوره مع عسكريين صهيانة في تطبيع فني صاعق، كما لم يجب على مواجهة لاعب التنس التونسي الجزيري للاعب اسرائلي في تطبيع رياضي خطير، وايضا لم يجب على وجود وزراء مطبيعين صادقت عليهم النهضة في مكتبها التنفيذي وكتلتها البرلمانية منهم الجهيناوي واللومي، وقبلهم وزيرة السياحة المشيدة بالكيان الصهيوني آمال كربول، في تعامي وتجاهل للجرائم الوحشية الاسرائيلية ضد الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين، واحتلاله البربري للاراضي العربية وتدنيسه للمقدسات وعلى راسها الاقصى. ما يسقط آلية الرقابة الحكومية والبرلمانية التي لا فعاليّة لها في غياب قانون رادع، يمنع الامر بمقتضيات صريحة دقيقة ويرتّب عليه عقوبات زجرية، اذ المبدأ أن لا جريمة ولا منع بدون نصّ قانوني سابق الوضع، والاّ سندخل على خط "التأويلات" و"الاستثناءات" و"الضرورات" وغيرها من التبريرات لتسويغ القبول بالتطبيع، ووزيرة السياحة في 2014 كربول تحدّت النواب في التاسيسي عند مساءلتها بأنه لا يوجد قانون يمنع دخول اسرائيليين لتونس، وفي النهاية لم يصوّت نواب النهضة على لائحة اللوم من اجل عزلها، أما قضية الأضرار التي يمكن أن تلحق تونس من الدول الغربية والمؤسسات الاممية و خاصة بافرادها بقانون في الصدد، فهي متهافتة اعتبارا ان المقاطعة فيها قرارات صادرة عن الجامعة العربية تونس ملزمة بها، وزيادة فاليوم الشعب يعيش الجوع والبؤس بسياسات العريض المتجانسة مع هذه الدول والمنظمات والخاضعة لها، فهل بعد هذا يوجد ما أسوأ وأنكى!؟ والحقيقة أنّ هذا الخوف المرضي الوجودي للنهضة، والتشبث المرضي أيضا بالسلطة بكل الاشكال حتى الهامشية، في ظل وجود قيادات عليا تلاحقهم شبهات متعددة بتتبعات قضائية وعلى راسهم العريض لم تحسم، ما جرّهم لصفقات سياسية وتنازلات، وحتى عروض مغرية وتواطؤ سياسي من قبلهم، المهمّ تجنّب الملاحقات وتجنب الازاحة من الحكم وتجنب في الحد الاقصى الاستئصال وربما العودة للسجون والمنافي، وهي هواجس استبدت بشكل كبير بالنهضة الى حدّ المغالاة والشطط، واستغلها الغنوشي ذاته لبث الرهبة والخوف واستعمالها كفزاعة للتحكم في القرار داخل المؤسسات، وهي آلية فعّالة جدا داخليا، وتضمن الى حد ما القبول الدولي بتقديم النفس كتلميذ مطيع، وفي حالات اخرى في موقع المرتهن التابع، وفي احيان في موقف الوكيل الموثوق الخادم للمصالح الدولية. القوى الدولية.. الابتزاز اللامتناهي غير أنّ اللاعب الدولي عادة ما يستغل الامر كنقطة ضعف ويزيد في الضغط قصد التحكّم الكامل، فهو مخترق للبنية السياسية والفكرية والنفسية لهذه الشخصيات والاحزاب، ويمتلك أدوات الابتزاز ويضبط الايقاع سواء بالتهديد او قطع المساعدات او العقوبات والقوائم السوداء تارة او الوعود والمجازاة والأوسمة والدعم طورا حسب الحالة، وبالتالي فمسوّغات القوى والمنظمات الدولية واهية وساقطة بكل الاعتبارات، واثارتها لا تصب الاّ في مزيد اخضاع البلاد، واختراق سيادتها والتحكّم في سلطتها واضعاف قرارها. أمّا منطق "عدم طلب القيادات الفلسطينية" اصدار قانون في الغرض، واعتبار أنّ "الأمر لا يفيدهم"، فهو كذلك متهالك في اساسه، اذ كل الادبيات الفلسطينية المقاومة تطرح المقاومة عبر المقاطعة، وهو أحد أكبر الاسلحة فعالية لعزلة "اسرائيل" وتم تضمينه ضمن مقررات الجامعة العربية، وحتى ان لم تطلب هذه القيادات هذا الامر فالأصل أن نشارك بهذا الأمر المتاح، خاصة بعد التراجع العربي عبر فتح جبهات المقاومة واعلان التحرير، التي شاركنا فيها سابقا وقدمنا قوافل الشهداء في المقاومة الفلسطينية وآخرهم الشهيد الزواري، واليوم القضية الفلسطينية في شعبها المضطهد والمهجّر ومقدساتها المدنسة واراضيها المحتلة هي قضية الشعب التونسي، ومنطق الخذلان الذي يطرحه العريض يبرز الى حد كبير شخصيته السياسية الفاشلة عبر الانهيار الذي تسبب فيه في 2013 و2014، وهوسه الكبير بالسلطة من خلال عرض خدماته للمنظومة الدولية لكسب رضاها، الذي لن يناله وان ناله فبشروط مذلّة مهينة، والأصل هو التمسك بالمبادىء والقيم التي رفعتها الثورة وعلى راسها القضية الفلسطينية وليس تلبيسها ومقايضتها. العريض "المحنّك".. "الواعظ" السياسي واعتبار رئيس الحكومة الأسبق نفسه "محنّكا" في السياسة وفي الحياة، ما يسمح له بفهم شامل للأحداث، جعله يعتبر التصدي للتطبيع يكون من صلاحيات رئاسة الجمهورية ولا يكون بقانون، اذ أنّ مناهضة التطبيع لا يتم بقانون، مكيلا تهم الشعبوية لمن ينادي بهذا الامر، فهذا ايضا فيه مغالطة سافرة وتحدّ للارادة الشعبية التي تتصاعد، ووجود عريضة مما يزيد عن 94 نائبا من مختلف الكتل بما فيهم كتلته لاستعجال النظر في مشروع القانون هو أبرز دليل على الارادة الواسعة في الخصوص، وبالمقابل فالقوانين توجد كأدوات لتطبيق السياسات العامة، بضبط توجهاتها العامة والياتها التنفيذية بشكل دقيق، سيما في المجالات التي تمس النظام العام. والتطبيع في مختلف مجالاته، الاكاديمية والثقافية والفنية والاعلامية والسياسية والدبلوماسية والامنية والعسكرية والاقتصادية والسياحية والرياضية وغيرها، من أبرز الأفعال والممارسات التي تمس بالامن القومي والسيادة الوطنية وهنا تبرز ضرورة التقنين بقانون "يحدد" و"يضبط"و"يدقق"، وما يفنّد ما يتمترس العريض لمقاومته، هو ظهور المسؤولين عن السياسة الخارجية لتكريس التطبيع، ونستذكر جيدا مهدي جمعة في قضية دخول السواح الاسرائيليين، عبر قولته الشهيرة "بربي يزيونا م les grandes causes".. علي العريض يقدّم صوته الى حدّ الآن على أنّه موقف "شخصي" مبني على "خبرته"، ولكن في النهاية هو موقف الغنوشي النافذ في المحصّلة صلب الحركة، وهو القرار الضمني اليوم غير المعلن، الذي يقع تمريره دون اعلان رسمي من الحركة نظرا لحساسية الامر وطنيا وحتى داخل الحزب، وعملية عرقلة استكمال الاجراءات في مجلس النواب التي يقودها محمد الناصر بذلك الشكل السافر، لا يمكن ان تتم دون ايعاز من السبسي والغنوشي وبتداخل من العريض صاحب الموقف "الجاهز" في كل مناسبة. من العار اليوم أن برلمانيين نرويجيين يرشحون قبل أسبوع حركة مقاطعة "إسرائيل" وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها "BDS" رسمياً للحصول على جائزة نوبل للسلام، وفي الوقت الذي اتخذ فيه مجلس الامن قبل سنة قرارات ضد الكيان الصهيوني، وايضا الاتحاد الاوروبي سنة 2015 عقوبات بمنع أشخاص ومنتجات قادمة من "اسرائيل" وضبط قوائم سوداء في الخصوص، وفي نفس الوقت الذي تتخذ فيه محاكم اوروبية قرارات جريئة جدا بما فيها مذكرات اعتقال ضد قيادات اسرائيلية، في نفس هذا الوقت يطلع علينا العريض مدعيا الحكمة والصواب "واعظا" الشعب بعدم تجريم التطبيع، محذّرا من "مغبّة" الاندفاع متهما بكل جسارة الاصوات الحاشدة بسن قانون في الصدد ب"الشعبوية".. وقد لا يمر في النهاية مشروع القانون ويسقط، ولكن النهضة بعد محرقة التسعينات والالفية البدنية والسياسية، اليوم وفي المستقبل ستعيش في عمق محارق أدبية رمزية فضلا عن السياسية بتماهيها مع الفساد عبر قانون العفو على الفاسدين، وعبر تبديدها الرأس مال الرمزي للثورة، واليوم عبر مناهضتها لتجريم التطبيع!! (*) قانوني وناشط حقوقي