في تصريح له بعد الاجتماع الأخير حول وثيقة قرطاج قال الأستاذ راشد الغنوشي إن مشكل تونس ليس مشكل تغيير الحكومة فقد شكّلنا بعد الثورة العديد من الحكومات ومع ذلك فإن الأوضاع لم تتحسن بما يعني أن هناك مشكل آخر لا يتعلق بالحكومة . وفي سياق متصل صرح سمير ماجول رئيس اتحاد الصناعة والتجارة في تعليقه على الدعوات التي تطالب بتغيير الحكومة الحالية واستقالة الشاهد بأن تونس مستقلة وتحتاج إلى وزراء مستقلين لا تتحكم فيهم الحسابات السياسية والمطامع الحزبية وتكون لهم القدرة على تقديم الإضافة . هذه عينة من التصريحات التي ظهرت في الآونة الأخيرة والتي تفيد أن البلاد تمر بأزمة خانقة وتعرف إنسدادا في الأفق وتعيش مرحلة اهتزاز في كل المجالات وخاصة المالية والاقتصادية والاجتماعية منها وهذا الملف كان محور ندوة مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات يوم السبت 17 مارس الجاري تناولت حقيقة الصندوق النقد الدولي وتأثيره على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد والمراحل التي تسللت فيها مثل هذه المؤسسات المالية العالمية لبلادنا والاختراقات الخطيرة التي تحصل اليوم للتأثير على القرار السياسي والتحكم في السيادة الوطنية وتداعيات كل ذلك على الانتقال الديمقراطي والبناء الجديد للجمهورية الثانية بعد الثورة. في هذه الندوة تم التعرض إلى الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي من خلال سياساته وإملاءاته التي فرضها على الحكومات المتعاقبة والتي تقدم في شكل اصلاحات الغاية منها انقاذ البلاد وإخراجها من أزمتها المالية والاقتصادية في حين أن ما تقترحه وتقدمه هذه المؤسسة المالية هو في الحقيقة مزيد من ارتهان البلاد للغرب ومواصلة للاستعمار القديم من بوابة المال والاقتصاد وجعل الدولة تفقد استقلال قرارها السياسي في استراتيجية واضحة لجعل البلاد مرتبطة قي سيادتها بالأجنبي وخدمة المصالح المالية والاقتصادية للدول الغربية. وهذا يتضح حينما نراجع التدخلات الأربعة التي قام بها الصندوق في بلادنا حيث تدخل مرتين قبل الثورة ومرتين بعدها فكان التدخل الأول سنة 1958 بدعوى الوقوف مع الدولة الحديثة للخروج من أزمتها المالية ومعالجة عجزها المالي وذلك بمنحها قرضا ماليا (14 مليون دولار). أما التدخل الثاني فكان في سنة 1986 بعد الأزمة التي عرفتها البلاد في أواخر أيام حكم بورقيبة قبل الانقلاب عليه وما عرفه الاقتصاد وقتها من تدهور وتراجع من خلال برنامج الإصلاح الهيكلي الذي جاء بفكرة الخصخصة والتفريط في الخدمات العمومية وكل ما يتعلق بالمرفق العام . أما بعد الثورة فكان التدخل الأول في سنة 2011 عبر برنامج أطلق عليه تسمية اتفاق الاستعداد الائتماني الذي تحصلت بمقتضاه تونس على قرض قدره 1.7 مليون دولار أما الدخول الثاني بعد الثورة والرابع في تاريخ تونس الحديث فقد كان في سنة 2016 بمنح الحكومة قرض قدره 2.9 مليون دولار يسدّد على أربع سنوات وفق برنامج سمي التسهيل المدد وخلال كل هذه التدخلات الأربعة كان صندوق النقد الدولي يقدم قروضا في مقابل تطبيق الحكومات لاملاءاته وشروطه وبرنامجه الاقتصادي بما يعني أنه في كل مرة يقع اللجوء إلى هذه المؤسسة المالية لطلب مساعدتها المالية إلا وتولت فرض سياستها المالية والاقتصادية وهي سياسات لا تراعي جميعها خصوصية البلاد وخصوصية المرحلة التي تمر بها ولا تراعي الوضع الاجتماعي للناس فكل ما يهم الصندوق هو كيف يسترجع ما أقرضه من مال ؟ وكيف يجعل ما يمنحه في خدمة مصالح الدول التي وراءه ؟ إن الجديد في تدخلات الصندوق بعد الثورة هو أنه اتبع سياسة وإستراتيجية مختلفة من خلال البحث عن المشروعية لتدخله حتى لا يظهر على أنه هو الفارض للإصلاحات وحتى تظهر إملاءاته على أنها برامج الحكومة وصادرة عن الدولة التونسية وليست شروطا خارجية وهذه المشروعية تحققت من خلال فرضه صيغة للحكم تقوم على وجود أغلبية في مجلس نواب الشعب وعلى حزبين كبيرين لضمان تمرير كل القوانين والتشريعات التي يحتاجها بأغلبية مريحة وبهذه الطريقة يضمن الصندوق وكل الجهات التي تقف وراءه فرض كل السياسات التي يريدها بكل هدوء وبطلب ممن يحكم البلاد. إن الجديد الذي وقفنا عليه في تدخل الصندوق بعد الثورة والذي لا نجده في كل تدخلاته السابقة هو أنه يسوّق لخطاب متحايل وملتو لفرض برنامجه الاصلاحي حيث برر تدخله المالي على أنه يرمي إلى تحرير القدرات والبحث عن تحقيق النمو الحقيقي وكذلك تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي و تحقيق التوازنات المالية والتحكم في الإنفاق العمومي الذي يعتبره مرتفعا ولكل هذه الشعارات التي يرفعها الصندوق لتبرير فرضه للاملاءات مقابل منح القروض فقد فرض على الحكومة التونسية برنامجا يقوم على التفويت في كل ما هو قطاع عمومي والتخلص من كل ما يتعلق بالخدمات العامة وتحوير منظومة الدعم بتخلي الدولة عن دعم المواد الأساسية وتسريح العمال وشن حرب شعواء على الوظيفة العمومية التي تكبد ميزانية الدولة خسائر كبيرة بعد أن تضخمت كتلة أجورها حسب قوله وإصلاح الصناديق الاجتماعية التي تم نهبها قبل الثورة بالزيادة في سن التقاعد وبإجراءات جديدة للحث على التقاعد المبكر من دون القيام بانتدابات جديدة والتوقف عن التوظيف العمومي والترفيع في الفائدة المديرية والتخفيض في قيمة الدينار ب 20 % وسن قانون استقلالية البنك المركزي والكثير من الإجراءات التي تصب جميعها في خدمة الصندوق والسياسات الاقتصادية الليبرالية المتوحشة والتي لا تراعي خصوصية البلاد التي لا يصلح معها في هذا الظرف مثل هذه الآليات التي لا تتماشى مع اقتصاد مازال فيه الوضع الاجتماعي الهاجس الأول. ما نخرج به من هذه الندوة العلمية الهامة هو أن ما يقوم به صندوق النقد الدولي في كل تدخلاته التي قام بها في الكثير من الدول التي طبق فيها برنامجه ليس بالجديد ولا بالخفي كما أن الإجراءات التي تتخذها هذه المؤسسة المالية ليس بالجديد على الشعوب التي عرفت أزمات اقتصادية ومالية واضطرت إلى طرق بابه كما أنه من المعروف أنه لا يمكن أن نلوم الصندوق على ما يقوم به في كل مرة تدخل فيها ولا نلومه على الإملاءات والشروط التي يفرضها على الحكومات التونسية المتعاقبة فهو في الأخير يدافع عن مصالحه وهذا حقه لكن المقلق الذي وقفنا عليه في هذه الندوة هو أن مشكل البلاد ليس فيما يقوم به وإنما المقلق والمحير في نخبنا السياسية والفكرية التي تروج لثقافة التعايش مع سياساته وتدافع عن ثقافة القبول بالتدخل في السيادة الوطنية ..إن المقلق في وجود نخب تونسية تدافع عن خيارات صندوق الدولي وتتبنى حلوله لإخراج البلاد من أزمتها ... مشكلتنا اليوم مع ثقافة سياسية تمثل تواصلا لثقافة المستعمر القديم ومع نخب فكرية تتبنى الفكر الاقتصادي المتوحش الذي يسعى إلي تطبيق آليات اقتصاد السوق المحرر من كل القيود وخيارات اقتصادية تروج إلى أن حل البلاد يكمن في إحلال القطاع الخاص المكانة الأولى في قضية تحقيق التنمية وفك ارتباط الدولة مع الكثير من المجالات الحيوية والقطاعات الحساسة بعد التفويت في كل القطاع العام والتخلص من الخدمات العامة وحصر دور الدولة في مجالات محددة وهي الأمن والدفاع والخارجية .. إن المشكلة الحقيقة اليوم في هذه النخبة السياسية والفكرية المرتهنة للخارج و المرتبطة بمصالح جهات مالية واقتصادية تابعة لحكومات ما وراء البحار.