لا شك أن الموقف الذي وقع فيه الرئيس الفلسطيني هذا الأسبوع عندما دفع للاعتذار عن تصريحات تتعلق بالمحرقة اليهودية ما يؤكد أن عقدة الذنب الأوروبية لا تزال قائمة وأن العقلية التي دأبت عليها مختلف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بيمينها ويسارها ليست قريبة من نهايتها وأنها جزء من سياسة الابتزاز التي دأب عليها الآباء المؤسسون للكيان الاسرائيلي لضمان استمرار الدعم والتمويلات وكسب الحصانة وتجنب الملاحقة عن كل الجرائم والمجازر الجماعية المقترفة في حق العرب.. تناست كل الأطراف الامريكية والأوروبية والإسرائيلية كعادتها الحقائق التاريخية - والتي تؤكد أن العرب كانوا أرحم باليهود من الأوروبيين وأنهم أنقذوا الكثيرين من النازيين ووفروا لهم الأمان - عندما تعمدت الضغط على الرئيس الفلسطيني وهرسلته وتقزيمه أمام شعبه وهو أحق بالاعتذار على العقود الطويلة من الصبر والتحمل والمعاناة مع التشرد والتشتت جراء الاحتلال نتيجة غياب العدالة الدولية وسياسة المكيالين... فجأة انتبهت كل القوى الكبرى المتنفذة الى تصريحات الرئيس الفلسطيني الذي لم ينتبه لصوته ولا لصرخات شعبه وأطفاله الذين يقتلون بالرصاص الحي... طبعا يظل الاعتذار عن الخطإ من شيم الكبار وحدهم وهو أمر لا يقدر عليه أصحاب النفوس الموبوءة بداء المكابرة والتعالي والإصرار على الظلم. إلا أنه لا بد من القول أن اعتذار الرئيس الفلسطيني العلني عن تصريحاته بشأن المحرقة اليهودية لا يتنزل في هذا الإطار. فالرجل لم يجانب الصواب ولم يفعل أكثر من استعراض ما كتبه كارل ماركس ولم يكذب المحرقة وما كان عليه الاعتذار لأحد.. ربما كان الاعتذار الوحيد المقبول هو الاعتذار الذي انتظره الفلسطينيون في المخيمات وفي المنافي والشتات وفي القطاع المحاصر والذي لم يأت. وربما كان يتعين أن يكون اعتذار الرئيس الفلسطيني للشعب الفلسطيني بسبب دناءة ومماطلة شركاء السلام الذين يريدون تزييف التاريخ بعد ان استولوا على الأرض واستباحوا العرض فاستمرت المعاناة وفشل طريق المفاوضات في الاعتراف بحق الفلسطينيين المشروع في اقامة دولتهم المستقلة مثل بقية شعوب العالم... كلمات محمود عباس التي أججت غضب صناع القرار في الدول الكبرى ودفعتهم للخروج عن صمت القبور الذي التزموا به منذ انطلاق محرقة العصر في قطاع غزة مع انطلاق مسيرات العودة في محاولة لاستباق ذكرى النكبة وسحب البساط أمام القرار الارعن للرئيس الامريكي بنقل سفارة بلاده من تل ابيب الى القدسالمحتلة، لم تحرك سواكنهم وهم يتابعون اخبار استهداف الاطفال والاعلاميين والمدنيين بالرصاص الحي... الرئيس الفلسطيني لم يجد بدا من الاعتذار بعد اتهامه بمعاداة السامية فعاد وأصدر بيانا قال فيه إن المحرقة «أبشع جريمة في التاريخ»، في اعقاب اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني بما يعني ضمنا اجماع المجلس بشأن هذا الموقف... والحال أنه لم يفعل في تصريحاته التي أثارت حنق إسرائيل والدول الغربية خلال افتتاح اشغال المجلس الوطني الفلسطيني سوى الاستشهاد بكتابات مؤرخين ومحللين يهودا أكدت إن «معاداة السامية في أوروبا نشأت ليست بسبب الدين اليهودي ولكن بسبب المكانة الاجتماعية لليهود في أوروبا وعملهم في قطاع البنوك والتعامل بالربى أدى إلى اللاسامية التي أدت إلى مذابح في أوروبا»... ما قاله عباس إنه «قرأ الكثير من الكتب لكتاب يهود ومن بينهم 3 كتاب حللوا فكرة العداء للسامية في أوروبا»، وذكر أسماءهم، وتحدث عن كتابات لكارل ماركس، قائلًا إن «قراءاته لهذه الكتب بينت أنه من القرن الحادي عشر في أوروبا وحتى المحرقة اليهودية في ألمانيا تعرض اليهود لمذبحة كل 10 إلى 15 عاما، ولكن لماذا حدث هذا؟ هم يقولون لأنهم يهود، لكن السبب هو المكانة الاجتماعية»، وأوضح أن «مثل هذا الأمر لم يحدث في الدول العربية». طبعا ثارت ثائرة إسرائيل وتواترت الانتقادات واعتبرت الخارجية الاسرائيلية أن تصريحات عباس صادمة وأنها تؤجج الكراهية ضد الشعب اليهودي وضد إسرائيل. ولم يفوت السفير الامريكي لدى اسرائيل الفرصة واعتبر أن «أبو مازن وصل إلى مستوى متدن جدا». وانضم الاتحاد الاوروبي الى قافلة المنددين، وربما تطول القائمة... على أمل أن نسجل يوما اعتذارا للشعب الفلسطيني على كل المحارق السابقة واللاحقة...