مازالت قضية التبعيّة اللغويّة المزمنة للمستعمر الفرنسي تراوح مكانها عندنا، ومازال المناضلون في المقابل يصرون أبا عن جدّ على حلّ هذه القضية، وهذا الدكتور محمود الذوادي انبرى يوم الخميس الماضي ينحى باللائمة، في جريدة «الصباح» على المجتمع التونسي، محملا إياه وزر الجناية الكبرى على لغتنا العربية، قائلا: «يجد المرء غيابا مفزعا لدى معظم التونسيات والتونسيين، لما نودّ تسميته بالسيادة اللغوية». فما هو مدى صحة هذا الطرح الذي يحمل أفراد شعبنا ذنب هذه الجناية على الركن القويم من هويتنا الوطنية والقومية؟ لغتنا صاحبة السيادة المطلقة حتى مطلع 1881 أقبل مجتمعنا بكل كيانه منذ أن أسلم وتعرب في القرن السابع للميلاد، على استخدام لغة القرآن الكريم، واختفت غيرها من اللغات كاللاتينية والبربرية، وبعد نحو أربعة عشر قرنا من انصهاره في لغته العربية، وبعد فتوحاته العلمية والفكرية والفلسفية التي شرّقت وغرّبت بهذه اللغة، حلّ الاحتلال الفرنسي في 12 ماي 1881 بادئا بفرض لغته الفرنسية علينا، وفي كافة مفاصل الدولة وأجهزتها ومرافقها، وصارت لغته اللاتينية المسيحية الدخيلة شرطا وفرضا لانتداب التونسي في أي وظيفة وأي مسؤولية، إلى حد أن المصلح الاجتماعي الكبير الطاهر الحداد خريج المرحلة العليا من التعليم الزيتوني اضطر للعمل كبائع للدجاج في السوق المركزية بالعاصمة، لعدم اتقانه لغة هذا المحتل الفرنسي. وأمعنت سلطات الحماية، في ضرب حصار خانق على العربية، ولولا معقل الزيتونة ومعاهده المعربة ذات الصبغة الدينية، ولولا المساجد والكتاتيب، لضاعت لغتنا غصبا عنا،بفعل الجبروت الفرنسي وعنصريته، ورغم ذلك استمرت المقاومة لهذا المسخ والعدوان ضد لغتنا، وخاصة من قبل النخبة المثقفة في مجتمعنا، ويعدّد الزعيم عبد العزيز الثعالبي في كتابه:»تونس الشهيدة» مزايا مقاومة التونسيين للاستبداد اللغوي الفرنسي، ويعدّد تضحياتهم الجسيمة في سبيل التمسك بعربيتهم وحضارتها وتراثها، وعلى سبيل المثال فإن المناضلة بشيرة بن مراد رئيسة جمعية المرأة التونسية المسلمة تعرضت للفصل والطرد من معهد بول كومبون بنهج مرسيليا سنة 1950، لأنها تجرأت على مطالبة الإدارة الاستعمارية بتدريس لغتنا العربية، وأن الدكاترة سليم عمار وأحمد ذياب والبشير التركي ومحمد السويسي وغيرهم منعوا رسميا من تدريس الطب والفيزياء والرياضيات بالعربية في ثمانينات القرن الماضي، وليس هذا فقط، وإنما الأغرب أن يرفض مكتب مجلس النواب الشعب حتى الآن ومنذ ستة اشهر، عرض مشروع قانون على اللجنة المعنية وعلى الجلسة العامّة، تقدم به النواب حول إجبارية تعميم الاستخدام للغة العربية، وفق الدستور، هذا إلى جانب تجاهل السلطة لاستقبال أربع هيئات لجمعيات تأسست لحماية اللغة العربية والدفاع عنها منذ سبعة أعوام. إذا لم تكن غير الأسنّة مركبا فلا يسع المضطر إلا ركوبها و لا ننسى عقوق السلطة الحاكمة ضد لغتنا العربية بعد إعلان الاستقلال في 20 مارس 1956، حيث توقع كل المناضلين والوطنيين أن رحيل المستعمر بعساكره ومعمريه وجاليته، سيتبعه لا محالة رحيل لغته عن مفاصل الدولة المستقلة وعن المجتمع برمته واحلال العربية محلها الطبيعي في بلادها وعقر دارها، لكن هذا التوقع المنطقي، سرعان ما أخفق، بل ازداد الطين بلّة، إذ بادر الرئيس الأول للجمهورية بإلغاء التعليم الزيتوني العريق سنة 1962 متجاهلا أنه معقل الحضارة العربية الإسلامية وصانع أمجادنا من ابن خلدون إلى ابن شباط إلى الحداد إلى الشابي، وغيرهم، ولم يكف الرئيس ذلك، فبادر أيضا في نفس السنة إلى الزج بالبلاد في المنظمة الفرانكفونية، وما يقتضيه ذلك من التزام الدولة بتكريس استخدام اللغة الفرنسية وفرضها على المجتمع التونسي، مقابل مساعدات وامتيازات للحاكم بأمره. وهنا نقول للدكتور الذوادي وغيره ممن يلقي المسؤولية على المجتمع التونسي في التفويت في لغته، هل من مجال ليكون مجتمعنا المنهك والمغلوب على أمره،سيدا على لغته العربية وهو مجبر على استخدام لغة فرنسا من سنة 1881 حتى 1987 وإلى اليوم؟ إن القول بعكس ذلك ليس إلاّ قراءة متجنية على الواقع. لننظر كيف كان الزحف قويا وحماسيا على استخدام لغتنا العربية عندما تمّ خلع رئيس الجمهورية الأول، وجاء خلفه فأصدر قرار إجبارية استخدام اللغة العربية في الإدارات والمؤسسات وتحجير اللغة الفرنسية في 29 اكتوبر 1999، حيث لقي هذا القرار ترحيبا ومباركة من كل أطياف المجتمع، واعتبره الإعلام والأحزاب السياسية استقلالا حقيقيا للبلاد، وازدادت مصداقية بن علي، لأنه انصهر في هوية الشعب والمجتمع، سواء كان ذلك عن اقتناع منه أو لغاية سياسية يريدها، ولكن المهم أن مجتمعنا تجاوب تجاوبا عميقا مع هذا القرار،وأقبل المواطنون والموظفون من رئيس المصلحة إلى المدير العام على حلقات التكوين والتدريب والتأهيل، التي انتظمت اثر صدور القرار المذكور لتطبيق إجراءات التعريب حالا، وللأمانة فقد كنت شخصيا إلى جانب العديد من الجامعيين، ممن اشرفوا على هذه الدورات والحلقات. ثم أن التونسيات والتونسيين لم يخفوا أن الفرنسية شر لابد منه سواء قبل الاستقلال أو بعده، فهي الشرط المسبق للحصول على شغل أو وظيفة، ولا تزال عروض الشغل في جريدة «لابراس» التونسية تشترط اتقان اللغة الفرنسية دون غيرها، ولا تزال مناظرات الانتداب في أي وظيفة تتضمن امتحانا إجباريا في هذه اللغة إلى يومنا هذا. ومعنى ذلك أن افراد المجتمع التونسي هم مكرهون على الفرنسية، ولكن الفرحة العارمة للمجتمع التونسي بقرار التعريب وعودة لغته إليه من الباب الكبير وبدعم الدولة نفسها، والناس على دين ملوكهم، لم تدم طويلا، إذ شنت فرنسا عن طريق وسائل إعلامها حملة عنصرية على قرار التعريب المذكور، واعتبرته ردة في مسار الحداثة، وسقوطا في التطرف الديني، ونقضا لانخراط تونس في المنظمة الفرانكفونية، وهددت بسحب الإيليزي للمساعدات والامتيازات التي يقدمها لنا، ونظرا لما لكرسي الحكم من سحر وإغراء ومن خوف على ضياعه، عادت حليمة لعادتها المشينة القديمة. المؤتمر الدولي الأول للعربية بقصر الجمهورية، وفرنسا بالمرصاد بعد 14 جانفي 2011 نظم رئيس الجمهورية الجديد المنصف المرزوقي مؤتمرا دوليا بقصر الجمهورية بقرطاج في 18 ديسمبر 2013 استمر يومين، كان فيه إجماع على أنّ العربية أصبحت منتشرة ومعترفا باستخدامها دوليا في أنحاء العالم، وأنه لا مجال في أن تبقى مهمشة وثانوية في عقر دارها، وتوقع المؤتمرون أن هذا المؤتمر هو تمهيد لقرارات هامّة بخصوصها ستصدر لاحقا ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. وكانت فرنسا التي راهنت في سياستها الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر على تأبيد التبعية اللغوية لها في كافة مستعمراتها القديمة في افريقيا وغيرها، لا يغمض لها جفن للقضاء على أي محاولة للخروج من هذه التبعية ومن بوتقة الفرانكفونية، وكانت زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتونس في فيفري 2018 تصب في هذا المسار، إذ ركز في خطابه داخل قبة البرلمان على أهمية احتضان تونس قريبا للقمة الفرانكفونية سنة 2020، معلنا في ذات الوقت بأنه قرر بعث جامعة فرنسية في عاصمتنا، كما قرّر مضاعفة عدد الطلبة التونسيين للدراسة بفرنسا، مذكرا بخصال بلاده وبمزاياها علينا، مثل تحويل الديون المتخلدة بذمتنا لبعث مشاريع تنموية، وأن بلاده فرنسا ستبقى المستثمر والشريك الاقتصادي الأول لنا، وأن 1400 شركة فرنسية المنتصبة في بلادنا سيزداد عددها، ويزددا عدد المشتغلين فيها. وهكذا يكون السم في الدسم، وهكذا يقف الرئيس الفرنسي فارضا ثقافته وحضارته بالمرصاد لأي محاولة تفقد فيها لغته نفوذها وسطوتها، وهكذا نبقى نحن في بلادنا كأفراد مجتمع نتهم بعضنا بالغياب المفزع لسيادتنا اللغويّة، ونتعامى عن إمعان السلطة الحاكمة في خرق الدستور المجسم لإرادة الشعب والمجتمع، والمشرع بكون العربية هي وحدها لغتنا الوطنية الرسمية الواجب استخدامها دون غيرها.