رحم الله المناضلة الراحلة مية الجريبي التي سيسجل لها التاريخ أنها كانت تخوض مختلف المعارك السياسية بترفع وأخلاق راقية، وأنها كانت تواجه خصومها وتتصدى لمنافسيها بما كان يفرض احترام أعدائها قبل أصدقائها سواء كان ذلك زمن الدكتاتورية البغيضة أو بعد ثورة 14 جانفي التي كانت مية أيقونة من أيقوناتها وهي التي حطمت ولو مؤقتا شعار أن السياسة عالم بلا أخلاق وأكدت أن ممارسة السياسة تستوجب حدا أدنى من الاخلاقيات التي دونها تنعدم الثقة بين أصحاب السلطة وبين الشعب... صحيح أن مية المتطلعة دوما للأفضل والمترفعة عن كل الشوائب لم تبحث عن المناصب ولم تلهث طلبا للتعويضات ولكنها كانت حريصة على غرس وتكريس ثقافة الديموقراطية فعلا لا قولا فحسب، وهو ما جعلها جديرة باحترام الجميع في استبسالها ودفاعها عن القيم والمبادئ المشتركة التي أسست لدستور 2014 الذي يظل برغم ما يحمله من هنات ملاذ التونسيين والبوصلة التي يحتكمون اليها في تسيير الحياة السياسية بكل تناقضاتها الصارخة.. أول الدروس التي يفترض التوقف عندها مع رحيل مية الجريبي ما إذا كانت السياسة والاخلاق متلازمتين.. نقول هذا الكلام ونحن نتابع أولا، تطورات الاحداث بشأن ما سيؤول اليه مصير حكومة الشاهد 2، وما اذا سيكون التونسيون على موعد مع سيناريو مستنسخ لمصير حكومة الحبيب الصيد، أو ما اذا سيكون الاسعاف وتأجيل نتائج الاختبار مع تحديد جملة من القيود التي ستمنع أعضاء الحكومة المقبلة من الترشح للانتخابات القادمة وهو خيار قد لا يملك معه رئيس الحكومة يوسف الشاهد رفاهية الخيار اذا تقرر ابعاده عن ماكينة حزب نداء تونس الذي ما انفك يعلن أنه منه وإليه.. أما النقطة الثانية التي نستعيدها على وقع رحيل المناضلة الوطنية مية الجريبي فهي مرتبطة بما نسجله في كل مرة تحت قبة مجلس نواب الشعب الموقر من انفلات وتصرفات وتصريحات وشتائم مخجلة يعجز المتتبع عن فهم الرسائل التي تصر فئة من النخبة السياسية على توجيهها للمواطن التونسي عموما والى ذلك الجيل من الشباب بصفة خاصة الذي ما انفك يجاهر برفضه وعزوفه عن عالم السياسة، ولا شك أن نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات البلدية كانت من اهم الرسائل التي لم تفلح النخبة السياسية في قراءة نتائجها حتى الان... فاذا كان هذا حال المجلس الذي يشرع للتونسيين القوانين التي يفترض أن تساعد على تسيير الامور في البلاد، فما بالك بما يمكن أن يحدث خارج أسوار المجلس من مظاهر التردي والاسفاف في الخطاب والمعاملات ومن خلط في المفاهيم لا سيما عندما يتعلق الامر باعلاء المصلحة العليا للبلاد.. كل المؤشرات اليوم تؤكد أن صيفا قائظا ينتظر التونسيين مع هجمة جحافل الناموس التي تمتص دمه وتفاقم المعاناة المستمرة مع تواتر الازمات الاجتماعية والاقتصادية وغياب البدائل والمشاريع والنتائج التي كان يمكن أن تشكل نقطة الحسم بشأن حكومة يوسف الشاهد التي فقدت بتخلي الاتحاد عنها أهم حزام سياسي تستند اليه.. وفي انتظار الخيط الابيض من الخيط الاسود، لم يعد التشويق سيد المشهد في مشهد سياسي مثير للإحباط والعزوف، فلا يجد معه المواطن التونسي الذي بات ضحية لامبالاة النخب الحاكمة سوى الغرق في تخمة احداث المسلسلات التلفزية والكاميرا الخفية لشهر رمضان بعد أن أنهكته عقلية الغنيمة الحزبية وصراعات النخبة السياسية الحاكمة المنصرفة الى لعبة تصفية الحسابات فيما تبقى من هذه المرحلة قبل الاستحقاقات الانتخابية المرتقبة لسنة 2019.. كيف سيتحرك رئيس الدولة الباجي قائد السبسي لإنهاء حرب المواقع التي لم تعد خفية بين يوسف الشاهد "رئيس حكومة الفرصة الاخيرة" كما وصفها في حينه، وبين نجله الرئيس التنفيذي لحزب نداء تونس الذي بات يجاهر برحيل الشاهد؟ تلك هي المسألة التي قد تتضح في الساعات القليلة القادمة وسيتعين على التونسيين التمرن أكثر على تحمل أهواء وأمزجة وحسابات الطبقة السياسية الحاكمة..