ليس من السهل أن نخسر في بضعة أيام قامتين من قامات البلاد وليس من السهل أن تنكب البلاد في شخصيتين من الصعب تعويضهما فمنذ أيام فقدان المفكر الدكتور كمال عمران واليوم نفقد عزيزا آخر تربطنا به ذكريات لا تنسى ولا يمكن أن تنسى .. اليوم نفقد أيقونة النضال السياسي ميّة الجريبي بعد رحلة مع المرض انتهى بالانتصار عليها .. هذه المرأة الحديدية التي مارست العمل السياسي في زمن انحسر فيه النضال وتم التضييق فيه على الحريات واتسعت فيه دائرة اليأس من التغيير وساد الاعتقاد بأن الرئيس بن علي باق ونظامه هو الآخر باق وحزب التجمع لن يزول وعروقه ثابتة وليس من السهل اقتلاعها ومن المستحيل تفكيكه والتخلص منه .. في هذا المناخ المتشائم وهذا الوضع الصعب على العمل السياسي والنضال الحزبي كانت ميّة الجريبي مع رفيق دربها نجيب الشابي صامدة ثابتة لا تتزحزح ولا يثنيها عن فكرها ومواقفها ونضالها السياسي شيء . تختفي اليوم ميّة الجريبي أيقونة النضال وتفارق الحياة لتترك وراءها مسيرة من النضال مشرفة وتاريخا مع المعارضة السياسية للدكتاتورية لا يستطيع أي إنسان مهما اختلف معها إلا ان يكبره .. من لم يعرف ميّة الجريبي في زمن الجمر لا يمكن أن يعرف النضال ولا يكمن أن يفهم الديكتاتورية .. تسلمت مقاليد الأمانة العامة للحزب الجمهوري في وقت حساس ازدادت فيه قبضة نظام بن علي الأمنية على الحياة السياسية وكثرت المضايقات على المناضلين ولكن هذه المرأة كانت صامدة لا يخيفها جور السلطة وجبروت آلته الأمنية .. تكلمت في نظام بن علي وعرت سياسته الجائرة وحاربت آلة التجمع الرهيبة في وقت كان يصعب فيه حتى مجرد التفكير في الاقتراب من منظومة الحكم السابقة. خسرنا اليوم رمزا سياسيا نسويا يصعب تعويضه فليس من السهل أن تناضل وتعارض وتنتقد نظام بن علي فكانت ميّة من القلائل الذين تجرؤا ورفضوا الانحناء والانصياع .. هي مناضلة من الرعيل الأول للدكتاتورية من الذين آمنوا بأن الصبح قريب وبأن عمر الديكتاتورية قصير وإن طال، وبأن لكل بداية نهاية وبأن الثبات على المبدأ والبقاء وفيا للموقف لا شك أن يُثمر .. رحلت ميّة الجريبي ورحلت معها مرحلة مهمة من النضال السياسي الوطني نحتاج أن نؤرخها لأهميتها حتى ندرسها لطلبتنا ونحكيها لأبنائنا الذين لم يدركوا المرحلة السابقة .. نحكي لهم أنه كان هناك امرأة اسمها مية الجريبى وقفت في وجه الاستبداد والديكتاتورية ولم تنحن أمام جبروته وقوته الأمنية .. نحكي لأبنائنا عن واحدة من أيقونات النضال السياسي في تونس كانت تحلم بتونس أجمل وأفضل بعد رحيل الديكتاتورية ولكنها لم تنل ما تستحقه وما كانت تحلم به .. رحلت عن عالمنا وتركت وراءها ذكريات جميلة لأيام عصيبة قل فيها الكلام ولجمت فيها الأفواه وصودرت فيها الحريات لكن مية الجريبي رفضت كل هذه القيود وأمنت بالحرية وبالإنسان .. رحلت ميّة الجريبي ورحلت معها مرحلة من النضال السياسي لن تعود لنبقى نتذكر دوما هذه الأيقونة التي وقفت في وجه الاستبداد في زمن كان كل من يعارض النظام السابق ينعت بالمغامر والمتهور.. رحم الله ميّة الجريبي المناضلة التي لم تنصفها الثورة.