في العادة تكون مسارات العدالة الانتقالية،مسارات استثنائية في تاريخ الأمم،مسارات تصنعها إرادة شعوب ملكت القدرة على التجاوز وعلى طي الصفحة وتضميد جراح الماضي وإصلاح شروخ وندوب الذاكرة الوطنية بعيدا عن ممارسات الانتقام والتشفّي واختارت بوعي وإدراك المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية عوض العدالة الانتقالية أو العقابية وتصفية الحسابات.. وقد اختارت تونس ابان حكم "الترويكا" اختارت الدولة خوض مسار العدالة لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. وعندما انطلق هذا المسار كان يُنظر إليها كأحد أبرز انجازات الثورة التي أشاد بها العالم،لكن المسار الذي انطلق متوهّجا،تعثّر بعد أمتار،لينتهي بانتكاسة مدوّية. انتكاسة تقاسمت الأدوار فيها رئاسة الحكومة والبرلمان والأحزاب المستنفرة ضدّ مسار العدالة الانتقالية من جهة وهيئة الحقيقة والكرامة التي تُصارع للاستمرار من جهة أخرى. وسيكون يوم 31 ماي القادم تاريخا حاسما في مسار تجربة العدالة الانتقالية في صيغتها التونسية هذه التجربة التي بدت باهتة ودون تأثير وهي توشك على النهاية على عكس بقية تجارب العالم في العدالة الانتقالية،حيث تتمسّك الحكومة بإنهاء أشغال هيئة الحقيقة والكرامة في هذا التاريخ وأعلنت أن ستوقف صرف اعتمادات مالية للهيئة التي يتوجّب عليها بمقتضى المراسلة التي وجهتها إليها الحكومة أن تحيل الملفات المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على الدوائر القضائية المختصة، كما طالبت الحكومة الهيئة إحالة التقرير الختامي الشامل على الرئاسات الثلاث. لكن هيئة الحقيقة والكرامة التي أنهكتها الخلافات الداخلية طوال الأربع سنوات الماضية لم تكترث كثيرا للحكومة ولمراسلتها حيث أكّدت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين في ندوة صحفية عقدتها الهيئة للغرض أن "تاريخ 31 ماي لن يكون تاريخ انتهاء مهامها، معتبرة أن التمديد في عمل الهيئة أو تاريخ انتهاء أعمالها ليس من صلاحيات رئاسة الحكومة". ليبقى السؤال الحارق ما هو مآل ال62.713 ملفا التي تمثّل ذاكرة الانتهاكات التي طالت منظومة حقوق الانسان منذ 1955؟ ملف من اعداد :منية العرفاوي تعثّر البداية وأزمة النهاية تتمثل مهام هيئة الحقيقة والكرامة التي أدّى أعضاؤها اليمين يوم 6 جوان 2014 في كشف الحقيقة حول انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة منذ 1 جويلية 1955 إلى غاية 31 ديسمبر 2013، وتقديم قائمة الضحايا وجمع روايات وشهادات الضحايا وتحديد مسؤوليات الدولة ومؤسساتها وإنشاء قاعدة بيانات حول هذه الانتهاكات.. كما تقدّم الهيئة توصياتها لجبر الضرر وردّ الاعتبار للضحايا من خلال صندوق للكرامة وجبر الضرر. وينتهي عمل هيئة الحقيقة والكرامة يوم 31 ماي الجاري وفق ما يضبطه القانون المحدث لها غير أن الهيئة قررت التمديد لنفسها إلى غاية نهاية شهر ديسمبر المقبل قبل أن يرفض مجلس نواب الشعب خلال جلسة عامة التمديد في فترة عملها. وعلى اثر رفض الأغلبية النيابية التمديد للهيئة وجّه مكتب مجلس نواب الشعب مراسلة لرئاسة الحكومة باعتبارها تمثّل الجهاز التنفيذي للدولة حتّى تفعّل قرار عدم التمديد. وهو ما جعل الحكومة توجّه رسالة إلى الحكومة لإعلامها بضرورة إنهاء مهامها قبل يوم 31 ماي وتسليم تقريريها الإداري والمالي إلى السلطات وطالبتها أيضا بتسليم الملفات إلى الأرشيف الوطني. قرار رفضته هيئة الحقيقة والكرامة وأكّدت رئيستها أن يوم 31 ماي الجاري لن يكون تاريخ انتهاء من مهامها وأن المراسلة التي وردت على رئاسة الحكومة لم تتحدّث عن تاريخ 31 ماي وأن المحكمة الادارية تؤيدّ قرار الذي اتخذته الهيئة في وقت سابق. وبالنسبة لقرار الحكومة بعدم تمكين الهيئة من امدادات مادية بعد 31 ماي أكّدت بن سدرين أنها ستقوم بما "في وسعها" للتصرف في الميزانية المتبقية المرصودة منذ بداية السنة. ويذكر أن مجلس نواب الشعب مساء قد صادق يوم 5 ديسمبر الماضي على مشروع ميزانية هيئة الحقيقة والكرامة لسنة 2018 والمقدرة 8.322 مليون دينار صرف منها قسط أوّل يغطي مصاريف الهيئة الى حدود يوم 31 ماي. الدولة ترفض الصلح وتحجب الأرشيف عمدت رئاسة الجمهورية مع الباجي قايد السبسي إلى حجب أرشيف الرئاسة ومنع الهيئة من الاطلاع عليه ونفس الموقف اتخذته وزارة الداخلية التي لم تمكّن الهيئة من الاطلاع على الأرشيف وخاصّة أرشيف البوليس السياسي.. كما أعلنت هيئة الحقيقة والكرامة أن الدولة رفضت الصلح في أكثر من ملف وخاصّة وزارة الداخلية. المتهمون يرفضون الحضور رفض أغلب المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان الحضور في أغلب جلسات الاستماع ولم يعتذر أي من الجلادين المتهمين زمن بن علي بممارسة التعذيب والتسبّب في حالات موت مسترابة أو حالات اختفاء قسري للضحايا باستثناء عماد الطرابلسي الذي قدّم اعتذارا علني للشعب التونسي وهو ما أربك مسار العدالة الانتقالية وشكّل ضربة موجعة ل"بيداغوجيا" التعامل مع ملف العدالة الانتقالية. فتور السياسيين في مواجهة الهيئة شهدت جلسات الاستماع للضحايا من مختلف التيارات الفكرية والايديولوجية التي نظّمتها الهيئة وخاصّة جلسة الاستماع الأولى اهتماما اعلاميا واسعا محليا ودوليا،كما شهدت حضور قيادات حزبية وسياسية هامّة ومن مختلف المرجعيات،ولكن بعض الأحزاب وعلى رأسها حزب نداء تونس ومشروع تونس وبقية الأحزاب المحسوبة على التيار الدستوري قاطعت هذه الجلسات ولم تحضر. الرؤساء يقاطعون جلسات المصالحة قاطع الرؤساء الثلاثة الباجي قايد السبسي ومحمد الناصر ويوسف الشاهد كل جلسات الاستماع الى الضحايا ولم يحضر أي منهم رغم حضور عدد من الدبلوماسيين وممثلي منظمة الأممالمتحدةبتونس وأعضاء لجان وهيئات الحقيقة من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما اعتبره أغلب الملاحظين موقفا معاديا لهيئة الحقيقة والكرامة ولأعمالها. البرلمان يرفض التمديد في الجلسة العامة المنعقدة يوم 26 مارس الماضي، صوت أعضاء مجلس نواب الشعب ضد قرار هيئة الحقيقة والكرامة التمديد في مدة عملها بسنة واحدة وذلك بعد نقاش حاد وتوتر بين النواب دام ساعات. المنظمات الدولية تتفاعل وصفت منظمة العفو الدولية رفض مجلس نواب الشعب التمديد في أعمال الهيئة بأنها "محاولة لمنع عملية المساءلة التي انتظرها الضحايا لعقود"، ودعت أجهزة الدولة لمساعدتها بدل محاولة إجهاض عملها. كما دعت اللجنة الدولية للحقوقيين أوّل أمس مجلس نواب الشعب التونسي إلى إلغاء قراره الصادر في 26 مارس الماضي 2018 وإتاحة الفرصة لهيئة الحقيقة والكرامة لتنفيذ ولايتها لمدة سنة أخرى على الأقل بهدف الانتهاء من تحقيقاتها في انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة. القوّة العامّة.. وسيلة وحيدة لانهاء اعمال الهيئة يرى الخبير في القانون الدستوري جوهر بن مبارك ورئيس شبكة "دستورنا" وهو الرأي الذي عبّر عنه في وقت سابق أن قرار مواصلة الهيئة لأعمالها هو قرار قانوني وفق الفصل 18 من قانون 2013 المنظم للعدالة الإنتقالية، وما قام به البرلمان من تصويت ضد قرار هيئة الحقيقة والكرامة بتمديد مدة عملها بستة أشهر هو أمر باطل قانونيا، فالقرارات الإدارية لا تخضع للمراقبة التشريعية حسب القانون العام والقانون الإداري.. كما أشار الى أن عمل الهيئة لن يتوقّف إلا بعد ان تتخذ هي نفسها القرار وأن هناك فقط وسيلة واحدة لايقاف عمل الهيئة وهي استخدام القوّة العامة.