في إطار قرار يبدو سياسيا أعلن يوسف الشاهد مؤخرا عن إجراءات زج بها في خانة التمييز الإيجابي بين الجهات في التربية ولفائدة أبناء المناطق الداخلية. وسنتناول هنا خاصة الإجراء الخاص بالتوجيه الجامعي الذي أثار عديد ردود الفعل. سياسة التمييز الإيجابي: التجارب العالمية لمحاربة الفشل المدرسي اعتمدت سياسة التمييز الإيجابي في التعليم في عدة دول منذ القرن التاسع عشر وازدهرت في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي . وهي قائمة على تطبيق التمييز لمصلحة فئات من المجتمع أو جهات تعاني التهميش أو التمييز العنصري في بعض البلدان بسبب الفقر أو الظلم الاجتماعي أو المحيط أو اللون أو الانتماء.... ونتج عن ذلك تضرر أبنائها وبناتها بحصولهم على نتائج متدنية في التعليم . لذلك جاءت هذه السياسة لفرض الانصاف (ليس العدل) بين فئات المجتمع وطبقت هذه السياسة قاعدة جديدة في توزيع الموارد في المجتمع بحيث توفر أكثر الموارد لمن يحتاج للأكثر ليصل إلى التميز العلمي مثل غيره. مما يزيد من حظوظ الفئات الهشة وتكون حظوظهم في النجاح متساوية مع غيرهم من أبناء المناطق المرفهة. لذلك وصف هذا الشكل من التمييز بالإيجابي أو المقلوب. وتنوعت التطبيقات الميدانية في عدة دول. فهناك تجارب ركزت على المناطق مثل فرنسا وتجارب أخرى ركزت على الأشخاص وألوانهم وأصولهم مثل البرازيل وأخرى ركزت على المؤسسات التربوية كما هو الحال في التجرية التونسية التي انطلقت منذ أواخر القرن الماضي ببرنامج المدارس ذات الأولوية. ورغم تنوع سياسات التمييز الإيجابي فإنها لم تثبت عموما نجاعتها. ومن الأمثلة على ذلك الهند التي تعتبر من أوائل الدول التي طبقت التمييز الإيجابي منذ القرن 19 في عهد الاستعمار الانقليزي واتخذت سنة 2008 قرارا بتخصيص أكثر من نصف المقاعد في الجامعات لأبناء الفقراء وبينت الدراسات أن هذا الاجراء لم يثبت جدواه في تحقيق التمييز الإيجابي خاصة وأن الفقر تقاقم في الهند ستة أضعاف ما كان عليه . كما طبقت البرازيل هذه السياسة ومنذ سنة 2000 قررت 50 مؤسسة جامعية تمتيع الطلبة السود والذين ينتمون إلى عائلات متدنية الدخل بمساعدة في امتحان القبول بتلك الجامعات تسمح لهم بالنجاح فيه . ولاقى هذا الاجراء نقدا لاذعا من الاعلام المحلي على أساس أنه لا يعطي أهمية للمستوى العلمي في عملية الاختيار. ولم ينجح هذا التوجه وتم تداركه بقانون سنة 2008 الذي يمكن أبناء العائلات المعوزة مهما كان لونهم ب 50 بالمائة من مقاعد الجامعات العمومية باعتبار أن أبناء الميسورين يؤمون الجامعات الخاصة وفي سنة 2010 تم مزيد التدقيق في المعايير والمقاعد لتصبح ربع المقاعد للطالب الذي يكون دخل أسرته أقل مرة ونصف الأجر الأدنى في البلاد . وعاشت الولاياتالمتحدةالأمريكية أيضا تجربة التمييز الإيجابي لفائدة الطلبة السود وذوي الأصول اللاتينية لكن منذ سنة 2008 انطلقت حملات الرفض لها في عدة ولايات مثل فلوريدا ولويزيانا لأنها لم تثبت نجاعتها ورأوا في هذا الإجراء مضيعة للوقت والمال بالنسبة لمن استفادوا منه ولم يكن لديهم المستوى العلمي الضروري . وعاشت فرنسا أيضا نفس التجربة منذ سنة 2001 على أساس الزيادة في عدد المقاعد لفائدة الطلبة أصيلي المناطق ذات الأولوية في المؤسسات الجامعية التي يحرمون منها بسبب نتائجهم . وقادت التجربة بعض المؤسسات الجامعية من بينها معهد العلوم السياسية بباريس إلى فتح الباب لهؤلاء الطلبة الذين تم قبولهم باعتماد معايير خاصة بهم تختلف عن معايير القبول العادية دون المس من المعايير العلمية المطلوبة ووفروا لهم متابعة خاصة قبل دخول المعهد بمثابة السنة التحضيرية . لكن النتائج لم تكن مشجعة ففي حدود حوالي 8 سنوات من انطلاق التجربة استقطب المعهد 500 طالب من مختلف المناطق ذات الأولوية في فرنسا لم يواصل منهم الدراسة سوى 118. وفعلت المدرسة العليا للدراسات الاقتصادية والتجارية في باريس نفس الاجراء واستقطبت حوالي 4 آلاف طالب من المناطق ذات الأولوية وفي النهاية لم تختر منهم سوى 130 طالبا وبدورهم لم يقبل منهم للدراسة في شعب المدرسة سوى الثلث. كيف نفعًل التمييز الإيجابي ؟ فإذا وضعنا قرار الحكومة في هذا الاطار نلاحظ أنه قرار لم يستند إلى أسس علمية (لماذا 8 بالمائة) ولا تاريخية (التجارب العالمية) بل هو قرار يضرب قيمة هامة في التعليم وهي قيمة الجد وبذل الجهد والمثابرة للحصول على نتائج متميزة . ألا يوجد اليوم في إطاراتنا العليا من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعيين وخبراء دوليين من عاشوا في عائلات فقيرة وفي مناطق مهمشة لكن بفضل عزيمتهم ودعم عائلاتهم نجحوا وحققوا أهدافهم وهذا ليس باستثناء لو رجعنا إلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي المتدني الذي كانت عليه غالبية العائلات التونسية في الستينات والسبعينات. إن تخصيص 8 بالمائة من مقاعد الشعب التي سماها القرار الحكومي «شعبا نبيلة « ( أين النبل فيها؟) مثل الطب والهندسة لأبناء المناطق الداخلية على أساس أنه تفعيل لمبدأ التمييز الإيجابي لا يستجيب للمنطق وهو لا يطبق العدالة في التوجيه بين الناشئة، بل يكرس التمييز السلبي عندما نفرض على طالب الخضوع لترتيب مجموع النقاط في التوجيه لأنه من جهة أو عائلة ميسورة ونسمح لآخر بسبب وضعه الاجتماعي وانتمائه لمنطقة محرومة بعدم الالتزام بمجموع النقاط وأن يحصل بمجموع ضعيف على الشعب المطروحة(حوالي 30 شعبة حسب البلاغ). وقد أثبت هذا التمشي فشله في التجارب التي ذكرت ولم يكن وسيلة لتحقيق المساواة في النتائج ووتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص. فإذا أردنا مساعدة أبناء المناطق المهمشة بإجراءات تميزهم إيجابيا، فهناك حلول أخرى معقولة ومقبولة يمكن تطبيقها كأن نوفر لهم مدرسين في الجهات من أعلى مستوى يتم تكوينهم خصيصا للعمل هناك وأن نساعد هؤلاء المدرسين على الاستقرار في تلك المناطق ونسهل لهم ظروف الإقامة والعمل حتى لا تبقى تلك المناطق مرحلة عبور لديهم، وأن تتكفل الدولة بالخدمات التي تجعل التلميذ هناك يتعلم بأريحية كالمبيت اللائق مجانا والمطعم اللائق مجانا والتنقل المدرسي المجاني والمتابعة الصحية الدورية مجانا، وأن تتكفل الدولة بدروس تدارك خاصة بهم في كل المواد حتى لا نجد في امتحان البكالوريا مستقبلا العدد الهائل من الأصفار في اللغتين الفرنسية والانقليزية في تلك الجهات ،وأن تخصص لتلك الجهات برامج صيانة للبنية التحتية بحيث تتوفر لهم القاعات اللائقة والدافئة في الشتاء وكافة الوسائل التعليمية ويتوفر لهم الماء الصالح للشراب والحمامات النظيفة وفضاءات الترفيه المدرسية المختلفة . وإذا أردنا أن نساويهم في الحظوظ مع غيرهم للالتحاق بالشعب التي وصفها قرار الحكومة بالنبيلة فلنفتح تلك الشعب للجميع ويكون الدخول إليها بمتابعة سنة تحضيرية تعقبها مناظرة مفتوحة للجميع وفي هذه الحالة نفتح لأبناء المناطق المحرومة المبيتات الجامعية والمطاعم الجامعية مجانا ونقدم لكل واحد منحة شهرية مجزية تسمح له بالعيش الكريم والدراسة في ظروف طيبة. وعندها يكون النجاح للأجدر مهما كان انتماؤه الاجتماعي أو الجهوي.. * باحث وخبير تربوي