بقطع النظر عن البعد والطابع الاحتفالي للرقص فإنه من وجهة نظر فكرية وعلمية هو لغة ومحمل لهوية وتعبيرة وطرح لقضايا. وهو الجانب الذي حظي بحيز هام في برنامج الدورة التأسيسية لمهرجان أيام قرطاج الكوريغرافية موازاة مع البرنامج الخاص بالعروض. ولعل ما ميز هذه الندوات واللقاءات والنقاشات هو نوعية المشاركة التونسية والدولية خاصة أن المحور العام لهذه الندوات كان حول محاور تتعلق بالجسد والرقص وأشكال الهيمنة. فكان الكاتب والباحث المغربي ياسير بلهيبة المختص في سوسيولوجيا الجسد ورئيس مركز الدراسات والتوثيق الذاتي، من بين أبرز المشاركين في هذا المهرجان خاصة أنه صاحب أول إصدار عربي حول الرقص يتمثل في كتاب «الجسد الراقص كإشكالية»، وذلك في إطار مشروع بحثي ثقافي في بعده الموسوعي من المنتظر أن تشمل أجزاءه القادمة مشاركة كتاب وباحثين وأكاديميين تونسيين. «الصباح» التقت بهذا الباحث أثناء مشاركته في أيام قرطاج الكوريغرافية فتطرقت معه لعدة مسائل فكرية وفنية وثقافية تتعلق بواقع الرقص كقطاع ثقافي وعلاقته بالموروث والحراك الذي يعيشه في البلاد العربية وتحديدا منها المغاربية وأبعاده ورمزيته ومدى قدرته على مسايرة الراهن وطرح القضايا والمعيش. كما تطرق نفس الباحث لعدة مسائل أخرى نتابع تفاصيلها في الحوار التالي: إلى أي مدى كان البرنامج العلمي والفكري في الدورة التأسيسية لأيام قرطاج الكوريغرافية ذا جدوى باعتبار أنك كنت من بين المساهمين؟ -لا أحد ينكر أهمية تناول الجسد والرقص من منظور علمي وفكري وطرح كل متعلقات هذه الثنائية في ندوات ونقاشات من زوايا نظر ومحاور مختلفة لاسيما إذا تعلق الأمر بواقع هذه الثنائية في البلاد والمجتمعات العربية. إذ يكفي أن أذكر أنه لا يوجد توثيق للرقص في هذه المنطقة خاصة منها المغاربية باستثناء بعض المحاولات وبعيدا عن الرقص الشرقي. لذلك فإن مبادرة هذا المهرجان الذي بدأ كبيرا تؤسس لواقع وتناول أفضل للمسألة نظرا لما تزخر به البيئة الثقافية التونسية تحديدا والعربية بشكل عام من كفاءات وتاريخ ثري. هل تعني أن «النظري والفكري يجب أن يكونا صنوا الميداني» من خلال مشاركة الكوريغرافي المغربي توفيق إرديو تأليف كتاب «الجسد الراقص كإشكالية» باعتبار أنك أكاديمي وباحث؟ - لا أنكر أهمية التخصص وطرح المسألة من جانب الميداني أيضا موازاة مع الطرح الفكري لأن ذلك من شانه أن يطور الرقص ويخرجه من المفهوم الضيق له في المجتمعات العربية أساسا كونه مجرد أداة وتعبيرة عن الفرح والاحتفالية. لذلك اخترت تقاسم المهمة في هذا الكتاب مع كوريغرافي ميداني متمرس على القطاع وهو توفيق ازديو ويعد رائد الرقص المعاصر في المغرب ويحظى بصيت عالمي فضلا عن ثراء تجربته ودوره في تأسيس عديد المهرجانات وفرق الرقص ومختبرات الرقص في المغرب. وهو ما سعيت لإثباته في هذا المشروع. ما هي الجوانب التي قدمتها في المهرجان؟ -لم تختلف مشاركتي في هذا المهرجان عما اشتغلت عليه في كتاب «الجسد الراقص كإشكالية» باعتبار أن هذا الكتاب يأتي في سياق مشروع بحث يؤسس لمادة توثيقية هامة حول الرقص في المنطقة العربية أساسا منها المغاربية سيكون أقرب إلى التوثيقي في بعده الموسوعي خاصة أن الأجزاء القادمة ستشهد تعاملا ومشاركة باحثين في المجال حول تجارب مختلفة من تونس وبلدان أخرى. وما دفعني لذلك هو ما وجدته من صعوبة في مجالي البحثي إذ لم أجد المادة الموثقة الكافية حول الرقص بجميع أنواعه والتي تعكس ما هو موجود. ومن المنتظر ترجمة الكتاب وبقية أجزاء المشروع التوثيقي الثقافي حول الرقص إلى لغات أخرى لتكون أول مادة موثقة حول الرقص العربي في العالم، بقطع النظر عن الرقص الشرقي. كيف وجدت حركة الرقص في تونس؟ -أعترف أنه يمكن اعتبار تونس، نظرا لخصوصياتها التاريخية المتمثلة في مشرق مغرب، قبلة للتفاعل الرمزي الفني والثقافي للجسد الراقص، وهي غنية وثرية. كما تسمح حالة التراكم الثقافي لفضاء الحريات والعلمانية من صنع جسد مخضرم يجمع بين الثقافة التقليدية المرتبطة بالهوية وبين الانفتاح على الاخر... وشخصيا أنا اعتبر حركة الرقص في تونس مثل المغرب ومصر ولبنان، من المختبرات الاكثر تأهيلا لولادة نموذج الهوية المبدعة أي تلك التي لا تعيد اجترار الماضي ولا تغرق في تقليد الاخر. رؤيتك كباحث سوسيولوجي مختص في ما هو ثقافي مختلفة عن رؤية ونظرة الفنان والمبدع «الميداني» فإلى أي مدى يمكن الحديث عن «توليفة» تتجسم نتائجها في أعمال يستحسنها المبدع والجمهور؟ -الحديث عن قطاع الرقص يدفع ضرورة لطرح عدة إشكاليات منهجية ومعرفية في مقاربة إشكالات الرقص وعلاقته مع الجسد. ومن بينها مسألة التصنيف من خلال إبراز الاختلاف بين الراقصين في العالم العربي لأن في ذلك دفاعا عن مواصفات معينة في الرقص. ماذا تعني بذلك؟ -ما أعنيه أن التصنيف يجب أن يطرح وفق معيارين هما الجمالية والإبداع من ناحية والدلالات والرمزية لمعنى الحضور والعروض من ناحية أخرى. والأمر لا يتوقف عند هذا الأمر بل يثير اشكالات أخرى من قبيل الخصوصية والكونية أي أن مجموع الرقصات في العالم العربي والأمازيغي تبحث عن هوية معينة تتأرجح بين إعادة إنتاج الموروث الفني والثقافي وأخرى تعيده محاكاة الآخر باعتباره محددا لقيمة العمل الفني. أما الاشكالية الثالثة المطروحة في القطاع اليوم واعتبرها الأهم تتمثل في محاولة اكتشاف خبايا الموروث الثقافي الفني دون أن نصبح «سجينين» له مع الانفتاح على الثقافة الإنسانية باعتبار الإنسان معطى كونيا. بم تفسر ما يذهب له البعض فيما يتعلق بتوظيف الجسد في الرقص وتطويعه فنيا مثلا هو تشييء له؟ -تشييء الجسد إشكال مطروح في التعاطي مع قطاع الرقص وكل الأعمال الفنية تقريبا لكن بدرجة أقل، باعتبار ان مجتمع الحداثة مبني على النظريات العقلانية التي تهمل الجسد وتقدس العقل مما جعل مجتمعات الحداثة تعاني من حالة انفصام أسست لنموذج الفردانية خاصة مع انتشار موجة تسويق الجسد وإفراغه من مضمونه واعتباره مجرد سوق لترويج السلع. وهل الأمر كذلك بالنسبة لجسد الراقصين؟ -على العكس من ذلك لأن جسد الراقص ينطلق من فكرة «أنا أرقص إذا أنا موجود» وهي أطروحات نجد أصولها في كتابات ميشيل فوكو ونيتشة حول جينالوجية الأخلاق والجسد. هل هناك تصور موحّد للرقص في العالم العربي؟ -هناك تعدد للمشارب والتجارب الراقصة للجسد في العالم العربي لكنها تتفق حول أهمية توظيف المخزون الفني والثقافي والبحث عن هوية خاصة. يكفي أن أستشهد في ذلك بتونس من خلال تجربة كل من حفيظ ضو وعائشة مبارك. إذ نجد أن هم المجتمع التونسي بمتغيراته تحضر بقوة في عروضهما. وفي تجربة توفيق ازديو في المغرب نجده يوظف الموروث الثقافي الأمازيغي والعربي والإفريقي انطلاقا من أن هذه المكونات شهدت تاريخيا تناقلا وتثاقفا أدى إلى التبادل الرمزي مثلا «الجذبة» واللباس والوشم.