تحتاج نتائج الامتحانات الوطنية اليوم (الباكالوريا ومناظرتا النوفيام والسيزيام) إلى هبّة من قبل جميع المتدّخلين في المنظومة التربوية سواء كانت سلطة الإشراف أو نقابات التربية أو مختلف مكونات المجتمع المدني الناشطة في المجال التربوي، بما أن النتائج المعلن عنها عكست وضعا تربويا يستوجب تشخيصا دقيقا لأسباب تراجع وتدني التحصيل العلمي للتلاميذ الذي طال وللأسف النخبة من التلاميذ. صحيح ان الحديث عن تراجع مستوى التلاميذ وتدني التحصيل العلمي ليس بالأمر "الجديد" بما أن الإشكال يتعمق من سنة إلى أخرى، لكن المفزع والملفت للانتباه هو أن هذا التراجع استفحل وطال الصّفوة من التلاميذ والأرقام في هذا المجال اقل مال يقال عنها أنّها "مفزعة". بما أن غالبية الناجحين في امتحان الباكالوريا دورة 2018 نجحوا بملاحظة متوسط لتكون نسبة التميز المسجلة هذه السنة في حدود ال4 بالمائة. وبالتوازي مع ذلك سجلت بعض المعاهد النموذجية حالات رٌسوب: وضعية تفضي إلى طرح نقاط استفهام عديدة من قبيل: هل ان تلميذ اليوم ليس بتلميذ الأمس؟ أم أن الإشكالية أعمق واكبر تتعلق تحديدا بضعف في تكوين بعض الإطارات التربوية بما ينعكس سلبا على التلميذ؟ من هذا المنطلق، ولأن تراجع المهارات والمكتسبات المعرفية قد طال "أنجب النجباء" فقد توجّهت أصابع الاتهام إلى ما يوصف اليوم "بالجيل الجديد من المكونين" الذين يفتقرون وعلى حد تشخيص البعض إلى التكوين الجيد الذي يؤهل لصنع جيل "متميز" لا سيما أولئك المختصون في المواد العلمية. "الصباح" ارتأت عبر هذه المساحة أن تفتح ملف اضمحلال وغياب عامل التميّز لدى التلاميذ والأسباب الفعلية التي تقف وراء التراجع في التحصيل العلمي الذي سجل حضوره وبقوّة هذه السنة لدى النخبة من التلاميذ من خلال نتائج المناظرات التي تمثل المحرار الذي يقاس به المستوى الحقيقي للتلاميذ بعيدا عن "المساحيق التجميلية". ولئن تتباين الآراء وتختلف فان الإجماع حاصل على ان الوضع التربوي اليوم قد دق ناقوس الخطر بما يعني ان الجميع مدعو إلى الجلوس على طاولة التفاوض قصد ضبط إستراتيجية فعالة تنهض بالقطاع. كشفت إحصائيات وزارة التربية في ما يتعلق بالملاحظات التي تحصّل عليها الناجحون (متوسط-قريب من الحسن –حسن جدا) في امتحان الباكالوريا أننا إزاء معضلة تستوجب تشخيصا دقيقا للأسباب التي تقف وراء هذه النتائج لاسيما أن هذا الضعف في المهارات ستكون له تداعيات وخيمة على الحياة الجامعية. من هذا المنطلق فان ملاحظة «متوسط» قد سجلت حضورها بامتياز بما أن غالبية الناجحين في دورة 2018 وفي جميع الشعب قد تحصلوا على هذه الملاحظة بما ان 94.61 بالمائة من الناجحين في شعبة الآداب قد نجحوا بملاحظ متوسط فيما تحصل على هذه الملاحظة 54.31 بالمائة في شٌعبة الرياضيات و64.21 بالمائة في العلوم التجريبية و75.51 بالمائة في علوم التقنية و84.48 بالمائة في علوم الإعلامية. في المقابل تتوزّع نسب التميّز كالأتي : 0.06 بالمائة هي نسبة الناجحين بملاحظة حسن جدا في شعبة الآداب. 7.93 بالمائة في شعبة الرياضيات 7.29 بالمائة في شعبة العلوم التجريبية 0.21 بالمائة في شعبة الاقتصاد والتصرف 2.32 بالمائة في شعبة علوم التقنية 0.62 بالمائة في شعبة علوم الإعلامية 0.80 بالمائة في شعبة الرياضة وبالتوازي مع النتائج «الكارثية» سالفة الذكر فان مناظرتي الدخول إلى المعاهد النموذجية (السيزيام والنوفيام) ليست أفضل حال بما أن 1364 تلميذا نجحوا في شهادة ختم التعليم الأساسي رغم أن طاقة الاستيعاب تقدر ب3150 مقعدا علاوة على الأعداد الكارثية المٌتحصل عليها في المواد العلمية على غرار مادتي الرياضيات والفيزياء . هذه النتائج سالفة الذكر دفعت بالمهتمين بالشأن التربوي إلى المطالبة بالتعجيل بعملية الإصلاح التربوي لا سيما فيما يتعلق بتكثيف آليات تكوين المكوّنين، مطالبين في السياق ذاته بتعزيز منظومة التفقد على مدار السنة حتى يتسنى السيطرة على مواطن الخلل. رضا الزّهروني: 75 % من تلاميذنا هم دون مستوى التصنيف اعتبر رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني في تصريح ل»الصباح» أن ما نلمسه اليوم من تدني وتراجع في التحصيل المعرفي للتلاميذ، يمثل ترجمة لواقع المنظومة التربوية مشيرا إلى أن التصنيفات الدولية كشفت أن 75 بالمائة من تلاميذنا هم دون مستوى التصنيف اليوم. وفي معرض تفسيره لأسباب تراجع المكتسبات المعرفية للتلاميذ فسر رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ أن التميز والنجاح الدراسي اليوم هو رهين الإمكانيات المادية للعائلة التونسية. من جهة أخرى وفي تفاعله مع جملة الإجراءات التي كان قد أعلن عنها مؤخّرا وزير التربية حاتم بن سالم على غرار إعادة هيكلة دار المعلمين العليا أورد الزّهروني ان مثل هذه الحلول لا تعتبر ناجعة مشيرا إلى ان إجراءات الإصلاح تمر حتما عبر إصلاح المنظومة في كل مكوناتها وبرامجها داعيا في السياق ذاته الى ضرورة تفعيل إستراتيجية وطنية لإصلاح المنظومة التربوية مبيّنا أن الخطابات الراهنة حول إصلاح المنظومة التربوية هي خطابات شعبوية أكثر منها خطابات علمية أو مرجعية. طارق بلحاج محمد: تراجع مستوى المدرسين يعود إلى أزمة هيكلية تعاني منها منظومة التكوين منذ عقود في تشخيصه للتراجع الذي عكسته نتائج الامتحانات الوطنية، أكد الباحث في علم الاجتماع التربوي طارق بلحاج محمد في تصريح ل"الصباح" أن الامتحانات الوطنية وخاصة امتحان الباكالوريا تمثل الفرصة والمحرار الذي يمكننا من معرفة المستوى الحقيقي لتلاميذنا بعيدا عن تلك المعدلات المبالغ فيها التي يتحصل عليها التلاميذ في مسيرتهم الدراسية أو أثناء السنة الدراسية فالامتحانات الوطنية عبارة عن تقييم موضوعي لمستوى التلاميذ بعيدا عن الاعتبارات الشخصية والمحاباة والعلاقات الزبونية بين المدرس والتلميذ حيث يعتبر محدثنا ان تراجع مستوى تلاميذنا في المواد الأساسية واللغات ظاهرة معقدة ومركبة لا يمكن فهمها عبر عنصر تحليل واحد فهي تعكس أزمة تربوية ولكن أيضا أزمة لنمط مجتمعي ما فتئ يتغير دون أن تقدر المدرسة على مجاراته أو التكيف معه. فالمسالة تتجاوز مجرد ضعف في قدرات التلاميذ أو ضعف في تكوين أو أداء المدرسين بل أن الأزمة أعقد من ذلك بكثير يتراوح بين نظام تعليمي تونسي مريض وقليل الفاعلية والكفاءة وبين أجيال لم تعد ترى في المدرسة مصعدا اجتماعيا ولا مصدرا للمعرفة على حد تشخيصه. وفي هذا الإطار، يعتبر بلحاج محمد أن تراجع مستوى المدرسين في العقود الأخيرة لا يعود بالأساس إلى قلة كفاءة شخصية بقدرما يعود لأزمة هيكلية تعاني منها منظومة التكوين منذ عقود سواء في مستوى التكوين الأساسي أو العالي أو مستوى التكوين المستمر وكذلك طريقة انتداب المدرسين قائلا: "فقبل أن نتساءل ونصدم بمستوى المدرسين داخل القسم يجب أن نتساءل أولا ماذا قدمنا لهم من تكوين قبل أن نحاسبهم؟ كيف تحصلوا على شهائد الباكالوريا والإجازة والأستاذية وهم بهذا المستوى؟ كيف وقع انتدابهم وماهو دور التكوين المستمر في تجاوز هذه المشاكل؟" وأورد بلحاج محمد ان تراجع مستوى المدرسين اليوم يعود إلى خلل هيكلي في منظومة التكوين في تونس من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي، وما نلاحظه من ضعف حتى في المعارف الأساسية لديهم لا يعود لتقصير شخصي بل لمنظومة تربية وتكوين مأزومة وطرق انتداب حان الوقت لمراجعتها. وربما تعود أول فصول هذه الظاهرة إلى سنوات طويلة مضت منذ أن تم إغلاق مدارس المعلمين العليا، فمهنة التدريس ليست كغيرها من المهن إذ تتطلب تكوينا خصوصيا لا تقدمه الجامعة في شعبها التقليدية الموجودة. فالمدرس المحترف صناعة مجتمع وثمرة منظومة تكوين تؤهله لهذه المهنة مضيفا انه بعد غلق المدارس العليا للمعلمين أصبح انتداب المدرسين يتم من الجامعة مباشرة وعن طريق أشكال عمل هشة تبدأ بالتعويض لتنتهي بالإدماج والترسيم وهنا يمكن أن نتساءل: كيف لجامعة تصنف في آخر ترتيب الجامعات العالمية أن تقدم لنا مدرسين أكفاء؟ تغير طبيعة التلميذ التونسي وتغير النظرة للدراسة من جهة أخرى يرى بلحاج محمد أن تلميذ اليوم ليس هو نفسه تلميذ السبعينات والثمانينات فتراجع مستوى المعدلات يعكس تراجعا أكبر في الاهتمام بالدراسة من طرف هذا الجيل الذي يذهب إلى المدرسة "مرغما". فقد تعدّدت اهتمامات التلاميذ إلى جانب اهتمامهم بالدراسة، كالاهتمام بوسائل الاتصال الحديثة والأحداث الرياضية والأحداث الفنية وإهمال التلاميذ للمطالعة العلمية والأدبية فقد انتهى ذلك الزمن الذي كانت فيه المكتبات الفضاء المميز للمطالعة والترفيه وكان فيه الكتاب أحسن جليس كما هو الحال في ستينات وسبعينات وثمانينات من القرن الماضي. كما أضاف بلحاج محمد أن القيم التربوية قد تغيرت في زمننا: ويظهر ذلك من خلال عزوف الشباب عن الدراسة وقلة انضباطهم للتشريعات وتقاليد المؤسسات التربوية وربما يعود ذلك إلى أن الدراسة لديهم لم تعد مسألة مغرية ربما لأنها لا تستجيب إلى طموحاتهم وتطلعاتهم ذات السقف المرتفع. وفي أحسن الحالات أصبحت علاقتهم بالمعرفة و بالمواد الدراسية علاقة منفعية تقتصر على اعتماد المعلومات المقدمة للنجاح في الامتحان فقط دون استغلالها في الجانب التثقيفي وتكوين الشخصية. وما نراه من ممارسات عند نهاية الامتحانات وخاصة في نهاية السنة الدراسية يمثل خير دليل على ذلك قائلا: "بمجرّد الانتهاء من الامتحان في مادة معينة يقع إتلاف كل ما يتعلق بها من كراسات وكتب وكأن الشاب يريد أن يتخلص من « كابوس» يؤرقه وكأنه أيضا يقر بانتهاء صلوحية هذه الدروس بمجرد اجتياز الامتحان". وبالتوازي مع تغير القيم التربوية فقد تغيرت القيم الاجتماعية: ويظهر ذلك في بعض القيم التي تتبناها شريحة كبرى من الشباب ويشاطرهم فيها بعض الأولياء أحيانا. إذ يعتقدون أن المدرسة لم تعد السبيل لتحقيق الحراك الاجتماعي وضمان مستقبل آمن. كما يظهر ذلك في تغير المثل الأعلى بالنسبة للشباب، فلم يعد الموظف والمربى والطبيب مثلهم الأعلى في تصورهم للمستقبل بل أصبح الفنان وعارضة الأزياء والرياضي المشهور والشاب الوسيم والثري هي النماذج التي تغريهم أكثر ويعود ذلك لتأثير وسائل الإعلام. ليخلص بلحاج محمد إلى القول بأنّه لا يمكن النهوض بنتائج التلاميذ اليوم وبمردود المدرسة التونسية عموما إلا بإعادة الاعتبار إلى الأستاذ كركن أساسي في المنظومة التربوية وذلك باستشارته في كل ما يمكن أن يهم المنظومة وأيضا في تنويع منظومات التكوين وجعلها تنبع من واقعنا. وكذلك بتنويع أدوات ومحامل التعليم بحيث تصبح أكثر جذبا وإغراء للمتعلمين. خبير في النظم التربوية: المنظومة التربوية لا أسس لها أورد الخبير في النظم التربوية ورئيس جمعية الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية محمد بن فاطمة في تصريح ل«الصباح « ان المسالة متشعبة بما ان الإصلاحات التربوية أضحت علما له مبادئه وتقنياته موضحا ان عملية إصلاح المنظومة التربوية مع الوزراء الذين تداولوا على وزارة التربية لا يخضع إلى هذا المنطق مشيرا إلى أن المسائل التي تقرر فيما يتعلق بالشأن التربوي تقرر دون الرجوع إلى النظريات العلمية. وفي تشخيصه لأسباب وهن المنظومة التربوية فسر بن فاطمة أن الأمر يعود إلى غياب أسس للمنظومة التربوية على غرار غياب المجلس الأعلى للتربية الذي يتولى سيطرة سياسات وزارة التربية فضلا عن البرامج الكبرى لسلطة الإشراف . إلى جانب غياب معهد وطني بتقييم المنظومة التربوي . كما أضاف الخبير في النظم التربوية أن من بين الأسس التي تفتقر إليها المنظومة التربوية هي غياب كلية للتربية إلى جانب غياب ميثاق وطني للتربية والتّعليم يكون بمثابة دستور للتربية. وحول المسؤولية التي يحملها البعض للإطارات التربوية أورد المتحدث أن المسؤولية مشتركة موضحا في هذا الإطار أن البرامج التربوية لا توضع بصفة علمية ولا تكون محل تفكير أو تشارك.