"البلاد وين ماشية؟" لعله السؤال الأبرز على ألسنة التونسيين على امتداد السنوات الأخيرة لكنه اليوم قد لا يكاد يفارق مجلسا أو منبرا وهو تختزل دون شك عمق الأزمة وتشعبها في تقييم النخبة والمتابعين والمحللين فما بالك لدى المواطن البسيط الذي وإن كفر بالسياسية وأهلها وهجر الشأن العام إلا أنه يظل متابعا متوجسا لمآلات الأوضاع الراهنة على أكثر من صعيد. كثيرون شرعوا في توصيف الوضع الحالي بتشبيهه بأزمة آخر حقبة الزعيم الراحل بورقيبة وآخرون عادت بهم الذاكرة إلى الماضي القريب استحضارا لأزمة ما قبل انتخابات 2014 وآخرون يعتبرونه الأسوأ في تاريخ البلاد، ومهما يكن التشبيه الأقرب في التعبير عن عمق الأزمة فإن المتفق عليه من الجميع أن الأضواء الحمراء تشتعل في كل المفترقات منذرة بانتهاء المهلة قبل انفجار الوضع. وفي هذا السياق تقريبا تندرج التحذيرات الأخيرة من صعوبة الأشهر القادمة مع مفتتح السنة السياسية والبرلمانية ومع اقتراب مواعيد الفترات التاريخية لانفجار الحراك الاجتماعي ولموجة الاحتجاجات العارمة تحضيرا لشهر جانفي حيث يلوح ساخنا كعادته، وإن تواصلت بوادر الأزمة دون وضوح للرؤية قد يكون ودون مبالغة العقبة والمحطة الأخيرة قبل انهيار المسار برمته. لا علاقة لهذا التقييم بمحاولة الإيغال في التشاؤم أو السوداوية فالأكيد أن بث التفاؤل والحث عن النظرة الإيجابية للمستقبل أفضل بكثير لما قد يحمله من استحثاث للهمم لتجاوز الصعاب والشروع في الإصلاحات للنهوض بالبلاد، لكن حقيقة ليس من اليسير اليوم الحديث بإيجابية وسط كل هذه المؤشرات السلبية التي تغرق المشهد. فوبيا الحسابات ولا نبالغ إذا ما أشرنا إلى أن ما يعمق الشعور بالتشاؤم وانعدام الثقة في المستقل ليس المؤشرات السلبية المالية والنقدية والوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب للتونسيين الذي لا ينكره أحد بما فيها الحكومة بقدر ما هو الإحباط واليأس من صلاح النخبة السياسية الحالية وقدرتها على تجاوز مشاكلها قبل أن تكون قادرة على إيجاد الحلول لمشاكل التونسيين المتراكمة. لنقلها صراحة إن "فوبيا" الحسابات الضيقة للسياسيين تتمدد وتتسع بشكل مخيف يخنف أو يكاد هذه النخبة ويبعث بإشارات سلبية داخل رقعة الوطن وخارجه. وتصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة حروب وصراعات التموقع والاصطفاف المفضوح الذي تفوح منه رائحة "الارتزاق السياسي" وتغيير المواقف بسرعة الضوء من النقيض إلى النقيض والإعلان عن تحالفات خارج سياق التقاء البرامج والتوجهات والإيديولوجيات بل ضمن دائرة التخندق وراء الأشخاص وكلها ممارسات لا تترك لدى الرأي العام إلا انطباعا وحيدا مفاده سياسة العبث أو لعله العبث بالسياسة نفسها. صحيح أن منطق السياسة يجيز العمل بمقولة أن "لا صديق دائم ولا عدو دائم" لكن ما يحدث في الساحة السياسية اليوم لا يمكن تصنيفه تحت أي عرف أو نظرية سياسية من تلك التي تدرس على مدارج كليات العلوم السياسية. وحروب تحصين المواقع الدائرة رحاها في الآونة الأخيرة تستنزف للأسف ما تبقى من ثقة متداعية في الطبقة السياسية برمتها ما بعد 14 جانفي. اتهامات متبادلة وتعد اليوم الاتهامات المتبادلة وقود الجميع في حرب تحصين المواقع المستعرة، فالجميع يتهم النهضة بعرقلة الإطاحة بيوسف الشاهد عندما كان ذلك ممكنا ضمن مسار وثيقة قرطاج.. واليوم تلك الأطراف ذاتها أو جزء كبير منها يتهمها بابتزاز الشاهد ودفعه لإعلان عدم ترشحه إذا ما أراد البقاء على رأس الحكومة خوفا ربما من طموحه الجامح أو نزولا عند رغبة شريك التوافق الباجي قائد السبسي. البعض الآخر يتهم الشاهد بالانقلاب على إرادة حزبه ومسايرته لحركة النهضة كما يتهم رئيس الحكومة بتكوين حزام مساند حوله يعمل على اختراق الأحزاب والكتل في إطار حرب تحصين المواقع. يتهم أيضا رئيس الدولة بالانقلاب على خياره في تعيين الشاهد رئيسا للحكومة والعمل جاهدا اليوم على إزاحته نزولا عند رغبة نجله كما يتهمه خصومه بالسعي للتوريث وممارسة الابتزاز السياسي بهدف استبعاد الشاهد. "مساومة" و"ابتزاز" و"اختراق" و"انقلاب" تلك هي الاتهامات والتوصيفات الطاغية اليوم على خطاب السياسة وعلى صورة النخبة في عيون التونسيين. استحضار مشهد الأمس وما يزيد المشهد ضبابية والتباسا ما يلوح من تكتيكات الاستعداد لموعد 2019 بما فيها من حديث عن التوجه للتمديد لرئيس الجمهورية مع ما يقتضيه ذلك من تأجيل للانتخابات القادمة على غرار ما صرح به مؤخرا القيادي بحركة النهضة لطفي زيتون عندما استبعد إمكانية إجراء الانتخابات في موعدها المحدد. تزامنت هذه القراءات أيضا مع عودة الوئام بين شقي التوافق النهضة والنداء بعد فتور واضح رافقته تصريحات نارية من شق في نداء تونس مباشرة اثر الانتخابات الجزئية في ألمانيا وكذلك بعد نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة. واليوم لا يلوح أي خلاص ممكن من الوضع السياسي المتأزم إلا مظلة الشيخين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي وتوافقهما الذي لعنه الجميع واليوم يبدو المظلة التي يستظلون بها . ولا أحد يعلم لماذا تؤدي كل الطرق إلى وجهة التوافق وذلك منذ لقاء باريس وإلى اليوم هل بسبب الدهاء السياسي للرجلين في ساحة مليئة بهواة السياسية أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى مواصلة لمسار رسم للبلاد ولا مناص للحياد عنه بإرادة داخلية وخارجية أيضا. في الآن ذاته تعود نفس وسائل ومناخات السنوات السابقة لتخيم على المشهد من جديد استعدادا للمعركة الانتخابية وذلك باستحضار مواضيع الهوية والمعارك الإيديولوجية واللعب على المشاعر الدينية كمحور رئيسي للصراعات السياسية وذلك على حساب صراع البرامج والرؤى والأفكار والاستراتيجيات المستقبلية لوطن يئن من أزمات مستفحلة واستحقاقات متراكمة مؤجلة تحتاج إلى إصلاحات عاجلة دون شك لكنها أيضا تحتاج إلى حوارات معمقة ضمن أطر صحيحة شرعية ومشروعة لرسم سياسات مستقبلية إصلاحية واقعية ومتينة.