أيام قليلة تفصلنا عن العودة البرلمانية لآخر مدة نيابية (خامسة) لمجلس النواب الحالي الذي سيتم إعادة انتخاب أعضائه في انتخابات تشريعية مقررة مبدئيا في أكتوبر 2019. وإن كانت المدة النيابية المقبلة لا تختلف كثيرا من حيث الشكل في ما يتعلق بالمهام التشريعية المنوطة بعهدة البرلمان الذي تنتظره - كالعادة- قائمة طويلة من مشاريع القوانين والاتفاقيات المالية، إلا أن الهاجس الانتخابي سيكون دون شك شعار المرحلة والمحرك الأساسي لأنشطة الكتل البرلمانية ومواقفها وتفاعلاتها مع المستجدات الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهد بدورها نشاطا غير مسبوق. ومن بوادر "الغليان" المرتقب للمشهد البرلماني الإعلان منذ أيام عن تأسيس كتلة برلمانية جديدة مساندة لحكومة يوسف الشاهد (رغم نفي بعض قيادييها صلتهم بالحكومة) وهي "كتلة الائتلاف الوطني" وستكون الثالثة من حيث الترتيب بعد كتلتي النهضة والنداء، وأيضا وجود نية لتشكيل كتلة مشتركة بين كتلتي نداء تونس والمشروع. ومن المنتظر ان يحسم مكتب المجلس في أول اجتماع له بعد انتهاء العطلة البرلمانية حصص كل كتلة بعد تحديد تمثيلياتها. من الواضح أن الهاجس الانتخابي والدافع السياسي سيكونان المحددان الأبرز في نشاط البرلمان خلال الفترة المقبلة بما أنه -أي البرلمان- سيكون قطب الرحى وملعب الصراع السياسي ومحور العملية السياسية ومحدد مستقبل الأحزاب الممثلة فيه ومحرارا لكل مبادرة سياسية أو تحالف سياسي مستقبلي.. ناهيك أن المستقبل السياسي لرئيس الحكومة يوسف الشاهد (بعد دعوة حركة النهضة إلى إعلان عدم ترشحه للرئاسية مقابل ضمان بقائه على رأس الحكومة) والتفاعلات الناجمة عن قرارات رئيس الحكومة خلال هذه الفترة (إلغاء وزارة الطاقة وإعفاء مسؤوليها الكبار بعنوان مكافحة الفساد، سياسة لي الذراع بين الحكومة واتحاد الشغل..)، سيتحدد واقعيا بعد إعادة تشكيل الكتل البرلمانية ووضوح مراكز القوى الجديدة في البرلمان.. ومن دلائل الاستعدادات للحرب السياسية المقبلة دق طبولها منذ إعلان تأسيس الكتلة البرلمانية الجديدة، التي أعلن مؤسسوها عن هدف واضح لكتلتهم الجديدة وتتمثل خاصة في "كسر هيمنة كتلة النهضة على المشهد البرلماني ودفع مسار بناء المؤسسات الدستورية المعطلة منذ بدء الانتقال السياسي في 2011" على حد قول مصطفى بن أحمد الناطق الرسمي باسم الكتلة الجديدة. وهدف آخر غير معلن يتمثل في دعم يوسف الشاهد وحكومته سياسيا. وتضم كتلة الائتلاف الوطني 34 نائباً يشكلون تحالفاً بين نواب مستقلين ونواب كتلة حزب الاتحاد الوطني الحر التي تضم 12 نائباً. ومن المقرر أن تحتل المركز الثالث في البرلمان بعد كتلتي حركة النهضة (68 نائبا)، وحركة نداء تونس (55 نائباً)، الحليفان في الحكومة، وهي مرشحة لزيادة عدد نوابها في مرحلة لاحقة. يذكر أن ندوة الرؤساء كانت قد اقترحت في اجتماعها ليوم 20 جويلية الماضي عقد دورة استثنائية خلال شهر سبتمبر الحالي للمصادقة على مشاريع القوانين ذات الأولوية، مع حث اللجان التشريعية على مواصلة النظر في المشاريع المتعهدة بها، لكن يبدو أن النية تتجه نحو التخلي عن فكرة الدورة الاستثنائية على أن تنطلق المدة النيابية في موعدها الرسمي مع بداية شهر أكتوبر المقبل. فحسب الفصل 6 من النظام الداخلي «يعقد مجلس نواب الشعب دورة عادية تبتدئ خلال شهر أكتوبر من كل سنة وتنتهي خلال شهر جويلية، على أن تكون بداية الدورة الأولى من المدة النيابية لمجلس نواب الشعب في أجل أقصاه خمسة عشر يوما من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية".. ملامح مشهد سياسي وانتخابي جديد وتعتبر المدة النيابية الخامسة مهمة للغاية في تحديد ملامح ليس فقط المشهد السياسي على المدى القصير أي خلال الفترة التي تسبق الانتخابات التشريعية والرئاسية، ولكن أيضا في بداية تشكيل ملامح فترة ما بعد الانتخابات التي يراها عديد المتابعين للشأن السياسي التونسي شوطا جديدا من الفترة الانتقالية ولن تكون بأي حال نهاية حتمية لموجة الاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي عرفتها البلاد منذ ثورة 2011 حتى الآن... وأيضا جس نبض تجربة ما يسمى ب"التوافق السياسي" الذي طبع مرحلة ما بعد انتخابات أكتوبر 2014 وكان عنوانا لتعايش سياسي سلمي شبه إجباري بين حركتي النهضة والنداء.. مع وجود مسعى من الطرفين إلى كسر التوافق وإيجاد بدائل سياسية له وذلك عبر تحرك فردي وأحادي من الحزبين تمهيدا لدعاية انتخابية مبكرة تسبق انتخابات 2019.. وتعتبر مبدئيا، بعض مشاريع القوانين والمهام التشريعية ذات الصلة بالاستحقاق الانتخابي المقبل، من أبرز أولويات المجلس التشريعي خلال المدة النيابية الخامسة والأخيرة له، وهي مهام لن تخرج عن دائرة النقاشات السياسية الساخنة وستكون محور جدل مطول بين النواب ومختلف الكتل البرلمانية، ولعلها ستكون محور تحالفات سياسية مصيرية وتوافقات مطلوبة على غرار تنقيح قانون الانتخابات والاستفتاء (من أهم بنوده الترفيع في نسبة العتبة من 3 إلى 5 بالمائة وتنقيح شروط ومقاييس احتساب عدد النواب عن كل دائرة انتخابية) وانتخاب رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات (مرشح وحيد)، فضلا عن انتخاب ثلاثة أعضاء جدد في مجلس الهيئة لتعويض الأعضاء المغادرين الذين شملتهم قرعة التجديد الثلثي. وهذه العناصر إن تم الحسم فيها تشريعيا وسياسيا، ستعلن رسميا سنة 2019 سنة انتخابية بامتياز. وإلى جانب مشروعي قانون المالية ومشروع ميزانية الدولة لسنة 2019 اللذان سيكونان هذه المرة محور استقطاب سياسي حاد بين الكتل البرلمانية باعتبارهما يؤسسان لمرحلة ما بعد الضغط الجبائي الحاد وبداية انفراج المالية العمومية وفق ما يأمله رئيس الحكومة ومستشاروه الاقتصاديون، سيكون البرلمان في آخر مدة نيابية له أمام امتحان استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بعد فشله مرات عديدة في إتمام العملية بسبب فشل التوافقات حول الأعضاء المرشحين وآخرها جلسة 24 جويلية الماضي. وتعد المحكمة الدستورية من أهم الهيئات الدستورية المنصوص عليها في دستور جانفي 2014، بل هي "تاج للهيئات والمؤسسات الدستورية" وفق توصيف لمحمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب، علما أن نجاح انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية يتطلب تصويت أغلبية ثلثي أعضاء المجلس (145 صوتا على الأقل). كما ستكون مشاريع قوانين أخرى على رأس أولويات البرلمان من بينها مشروع قانون إصلاح أنظمة التقاعد في صيغته الجديدة، واستكمال مناقشة مشروع قانون الميزانية، وربما مشروع قانون يتعلق بتنقيح مجلة الأحوال الشخصية (في علاقة بتقرير لجنة الحريات الفردية ومقترح رئيس الجمهورية في 13 أوت 2018 بالتنصيص على صيغة توافقية في مسألة المساواة في الميراث) في انتظار تمريره من قبل مصالح رئاسة الجمهورية إلى مكتب مجلس النواب. رفيق بن عبد الله