لطالما كان التنظير للثورة، كأداة مُثلى لتغيير المجتمع وتحريك التاريخ في اتجاه القفز على التناقض الطبقي لتحقيق العدالة الاجتماعية في أعمق تجلياتها، شعارا مركزيا في أدبيات اليسار الثوري، المنحاز دوما للكادحين والمسحوقين اجتماعيا وسياسيا وذلك عبر تاريخه الطويل المثقل بالنضال والتضحيات.. ورغم أن اليساريين، الثائرين، لا يتوقّعون أن تنتهي هذه الثورات دائما إلى النصر بقدر ما يعترفون أنها قلّما انتهت الى النصر، الاّ أن ما لم يكن أبدا في حسبان هؤلاء أن هذه الثورات يمكن أن تأتي في لحظة تاريخية غير متوقّعة، وتحلّق أبعد من إيديولوجياتهم أو أن تغدر بهم الجماهير ذات لحظة ثورية وتتنكّر للفكرة التي ولّدت فعلا ثوريا وتنجح واقعية الأحداث في قطع «الحبل السرّي» بين الفكرة في جموحها الثوري، والفعل في بعده الواقعي المحكوم بإكراهات الحاجيات اليومية للجماهير. اليسار الذي أنتج «أدبيات» الثورات العربية من حرّية ومساواة ومنها الثورة التونسية.. أتت الثورات لتبعثر أوراقه في مشهد تراجيدي، ودفعت بأحزابه إلى حالة من التخبّط والتمزّق بين «الإيديولوجية» التي غذّت أحلام أجيال من اليسار في تغيير الواقع وإنصاف الجماهير الغاضبة، وبين ذات الجماهير التي مرّت من الفكرة إلى الفعل ورسمت بحراكها طريقا ثوريا لا يُقاد إيديولوجيا ويكشف في ذات الوقت عمق أزمة اليسار الذي أسّس مرجعياته على مطالب التحرّر والانعتاق السياسي والعدالة الاجتماعية، ولكن عندما تحوّلت المرجعيات والأفكار إلى ممارسة، حصلت القطيعة بين المرجعية والواقع بطريقة مباغتة وغير متوقّعة، رفعت الحواجز بين أصحاب الايدولوجيا وأصحاب الفعل الثوري «الميداني».. حواجز كان من الصعب اختراقها وتُرجمت إلى إخفاقات مدوّية في الاستحقاقات الانتخابية وآخرها الانتخابات البلدية. ولم يتمكّن اليسار التونسي بأحزابه وتحالفاته من استيعاب الشارع والجماهير المنتفضة التي غيّرت الواقع من منطلقات ثورية - يسارية، لكن بأدوات عفوية، ونجحت دون تعقيد في التغيير السياسي وترنو إلى تحقيق استحقاقات العدالة الاجتماعية وتكريس ضمانات قوّية للدفاع عن الحرّيات والحقوق، بعيدا عن الأحزاب اليسارية التي وجدت نفسها عاجزة عن إيجاد تصوّرات واضحة لقيادة الثورة أو للتأسيس لمشروع الدولة التي تريدها الجماهير المنتفضة. وإلى الآن وبعد سبع سنوات من الثورة فشلت أحزاب اليسار في ترجمة الشعارات الثورية إلى وقائع.. وبعد أن خرج اليسار بأحزابه وأجنحته وتياراته وتحالفاته «مثخن الجراح» من الانتخابات البلدية الأخيرة يقف اليوم في مفترق التاريخ ليحسم مصيرا معلّقا بين الاندثار والذهاب إلى النسيان في فورة صعود الأحزاب و الشخصيات البراغماتية، وبين الصمود وإيجاد سبل للبقاء... لحظة سيحاسب خلالها اليسار على فاتورة «الانعزالية «التنظيمية وغياب خطاب واقعي يقنع الجماهير والتسليم بشرعية النضال سنوات السرّية دون البحث عن شرعية «البديل السياسي».. وستدفع أحزاب اليسار بتفريعاته فاتورة وهم النقاء الثوري والتخفّي خلف الشعارات... وستكون فاتورة باهظة عن سنوات «التيه الإيديولوجي!».