كما هو معلوم فاز مؤخّرا الجامعي المتخصّص في الدّراسات اللغوية وعلوم البلاغة الأستاذ شكري المبخوت بجائزة عبد الحميد شومان لأدب الطفل (دورة 2017) التي تقام بالأردن، وهذا كما هو مؤكّد فوز جديد للثقافة التونسية وإشعاع مهمّ للإبداع الذي تنتجه النخبة التونسية، لعلّ من شأنه أن يسهم بقسط وافر في الترويج للكتاب التونسي ولإشعاع الأدب والفكر في تونس، إشعاعا يؤسّس لمكانة لائقة ولحضور متميّز لإنتاجنا الثقافي ضمن اهتمامات القرّاء والباحثين والنقّاد العرب وفي سائر أنحاء العالم. إذ لا يخفى على أحد ما للجائزة في مجال البحث العلمي أو الإبداع الأدبي والفنّي من وقع في نفوس المتلقين، يدفع إلى رغبة قويّة في الاطّلاع وحبّ المعرفة. والحقيقة أنّ الأستاذ شكري المبخوت صنع الحدث ونحت التميّز والإشعاع في أكثر من مناسبة، من ذلك فوزه بجائزة الرواية العربية "البوكر"، حيث كان ذلك تتويجا رائدا صعب نيله من قبل آخرين، على كثرة عددهم... فحقّقت بذلك رواية "الطلياني" مقروئية عالية على صعيد عربي، وحقّق المبخوت بعد ذلك فوزا آخرا على صعيد وطني،تبعه فوز عربيّ متميّزا بجائزة كبرى دولية هي جائزة الملك فيصل العالمية: فرع الدّراسات الأدبيّة، والتي كان محورها في الدورة المنصرمة "نقد السيرة الذاتيّة". جاء في تقرير اللجنة العلمية لجائزة عبد الحميد شومان لأدب الطفل، أنّ الجائزة مُنحت لشكري المبخوت، "لتميّز فكرة القصّة وصياغتها بشكل فنّي محبوك، بطريقة متماسكة وممتعة، كما أنّها تحثّ على تفعيل الفنون بمختلف أطيافها..." وثمّن التقريرمن ناحية أخرى كيف استطاع مؤلّفها على مستوى الشكل استخدام تقنيات الكتابة السردية بطريقة تلائم عقلية الطفل الصغير، أمّا عن الّلغة والأسلوب فهما بحسب التقرير شيّقان، ويحملان قدرا كبيرا من عنصري الإثارة والتشويق. قد يظلّ الباحث الناقد أو أيّ قارئ متابع مهما كان مجال اهتمامه يتساءل عن السرّ الجامع في تكوين المبخوت بين تميّز بحوثه في تخصّص علوم اللغة والبلاغة، (أطروحته للدكتوراه حول مسألة النفي في اللغة العربية، وله مؤلفات في قضايا البلاغة)، وتميّز كتاباته في عالم فنّ السرد إبداعا ونقدا. وهو ما يمكن أن يساعد على طرح الفرضية الآنية للبحث والدّراسة: هل كل متميّز في علوم اللغة والبيان، يمكن أن يُصبح من فرسان الإبداع في أجناسه المختلفة، ومتميّزا في نقد فنونه؟ لعلّ سياق البحث في مثل هذه المسألة إشكالياته عويصة وقضاياه مترامية الأطراف، قد يتجاوز الخوض فيها مثل هذا المقام. فقط سنكتفي بإيراد كلمة مختزلة عمّا بدا من تناغم وتماسك، ولاح لنا من وجوه ترابط منهجي طبع المسيرة العلمية والإبداعية للأستاذ المبخوت منذ بدايتها، ممّا كانفي تقديرنا إضافة إلى شعرية ملكته وحسّه الإبداعي العالي من أسباب فوزه بمثل تلك الجوائز وحيازته الرّيادة فيها عن جدارة. لقد كانت انطلاقة المبخوت عكس ما بات بديهيا بالدّراسات الأدبية بحثا ونقدا وتنظيرا، حيث بالتوازي مع إعداده لرسالته الجامعية الاولى حول كتاب الأيّام لطه حسين:"سيرة الغائب: سيرة الآتي"، كان أن أقدم صحبة الأستاذة رجاء بن سلامة على نقل أحد أبرز كتب نظرية الأدب، إلى اللغة العربية، ونعني مؤلّف ت. تودوروف،"الشعرية" (La poétique). وصدر هذا العمل بتقديم للناقد الأكاديمي المغربي عبد الجليل ناظم عن دار توبقال للنشر، بالدار البيضاء، طبعة اولى 1987، وطبعة ثانية في 1990. وتكمن أهميّة هذا الكتاب الذي خصّ مؤلّفه الترجمة العربية بكلمة مهمّة في أنّه، مثّل ثورة في مجال التنظير لفنّ الأدب، حيث نقل مفهوم تصوّر جماليات العمل الأدبي ممثلة في مقوّماته الشعرية، من مجال المضمون وقوّة تصوير الواقع (نظرية الانعكاس)، إلى مجال الشكل والبناء الهيكلي، وشعرية استخدام اللغة، إذ قيمة العمل الأدبي لا تكمن في مدى أهميّة الفكرة أو الموقف أو تصوير الواقع، وهو أمر يبدو متاحا أو هو في عمقه من عمل المؤرّخ أو عالم الاجتماع أو الإعلامي، بل جمالية العمل الأدبي تكمن في فرادة البناء وبلاغة التصوير وحبك الأحداث ونسج الأفكار نسجا شعريّا دالّا. لقد مثّلت تلك النظرية مركز اهتمام النقد والإبداع منذ ظهورها الجنيني في أعمال الشكلانيين الرّوس، وقد عُدّ كتاب تودوروف "الشعرية"، (الصادر منتصف ستينات القرن العشرين) استمرارا للتأسيس لأصول تلك النظرية، خاصّة أمام تحدّيات النقد الفلسفي وأطروحات النقد الجديد. ومن المعلوم أنّ المشهد النقدي العربي مشرقا ومغربا قد تلقّف ترجمة المبخوت وسلامة باهتمام كبير، تبعه تأثّر لافت بمقولات "الشعرية" في نقد الأعمال الأدبية والإبداعية بالنسبة إلى المجال العربي. وفي السياق نفسه جاء كتاب المبخوت الآخر: "جمالية الألفة: النصّ ومتقبّله في التراث النقدي"، (صدر ضمن منشورات بيت الحكمة، توس، 1993م). وهو بدوره بحث ضمن قضايا نظرية الأدب وفي ما يكون به هذا الفنّ إبداعا، إذ اتّخذ المبخوت من كتابات البلاغيين والشعريين والفلاسفة العرب مادّة نصيّة استنطقها بالدّراسة والتحليل في ضوء مفاهيم نقدية ونظرية حديثة، بحثا عن خصائص منجز النظرية النقدية العربية الكلاسيكية في مجال علم الأدب الكلاسيكسي. هكذا أتى هذا الكتابان إضافة إلى كتابه حول قضيّة "المعنى"، ليؤسّسا لاهتمامات نقدية إبداعية تمتح من النظرية وتبحث في أوجه حضورها وتأثيرها في صنعة الأدب. وقد تضافر كلّ ذلك مع اهتمامات فكرية نقدية تتصل بواقع الحياة الثقافية والحضارية في تونس العصر الحديث، وهو ما دلّ عليه إعداد المبخوت بالتعاون مع الروائي والإعلامي اللّامع حسن بن عثمان لكتاب "الموجود والمنشود" من خلال محاورة مطوّلة مع أحد أبرز بناة الجامعة التونسية ومؤسّسي حداثتها في مجال الانفتاح على المناهج والنظريات النقدية الحديثة. ونعني الأستاذ توفيق بكّار. أيضا في السياق نفسه جاءت مشاركته في إعداد كتاب محمّد الطالبي"عيال الله"، كان وإسهامه المتميّز في ملحق ورقات ثقافية الذي كانت تصدره جريدة "الصحافة" التونسية في تسعينات القرن العشرين، وكان فضاء متميّزا جامعا لكتابات النخبة الأكاديمية والثقافية ولاهتماماتها، وقد كان لنا شرف المشاركة فيه. وللإشارة فقد أقدم مؤخّرا الأستاذ المبخوت على محاولة كتابة تاريخ التكفير ومقاومة الفكر النقدي الحرّ في تونس، كتابة علمية منهجية تقوم على مبدأ المساءلة والنقد، وكتابه "تاريخ التكفير في تونس" الصادر عن دار مسيكيلياني دالّ على ذلك. هكذا ليس الأمر مجرّد تطبيق لنظرية، أو انتقال هكذا من اللغة إلى الأدب، وإن كانت الوشائج متينة بينهما، بل وليد مسار متكامل مترابط، وهنا يجدر القول إنّ عالم الأدب والفن يمكن التأليف فيه إبداعا ونقدا من قبل القادمين من كلّ تخصّص شرط تماسك البناء الفنّي، وجمال أسلوب التعبير، وعمق الرؤيا، وسبق المقاربة، وحسن توظيف المعرفة، وفرادة التصوّر، إضافة إلى سعة الاطّلاع، أي موسوعة المعرفة والثقافة.