تسلمت تونس منذ الامس على هامش الدورة السابعة عشرة رئاسة منظمة الفرانكوفونية بما يعني أن تونس ستكون خلال الاشهر القادمة أمام حدثين دوليين أما الاول فيتعلق باحتضان القمة العربية في مارس القادم وأما الثانية فتتعلق باحتضان قمة الفرانكوفونية مطلع 2020 ما يعني أنه سيكون أمام الديبلوماسية التونسية الكثير استعدادا للحدثين.. طبعا الامر لا يتوقف عند المسائل التنظيمية التي يمكن القول بان تونس كسبت فيها الاختبار التنظيمي أكثر من مرة ولكن الامر يتعلق بما يمكن أن تفرزه مثل هذه المواعيد عربيا أو دوليا في عالم متقلب تحكمه قوانين العولمة ولعبة المصالح ولكن أيضا تعقيدات وخطورة الازمات التي يقابلها هشاشة وغياب الارادة السياسية المطلوبة... وبالعودة الى قمة الفرانكوفونية التي اختتمت اشغالها أمس في ارمينيا والتي حظي فيها الرئيس الباجي قائد السبسي باطراء وثناء الرئيس الفرنسي الذي لم يغب عنه ما تواجهه معركة الحريات والمساواة في بلد يشق طريقه على طريق الديموقراطية ليس من دون صعوبات أو عراقيل وهي معركة عقليات بالدرجة الاولى وستكون بالتأكيد عنوان المعركة القادمة أيضا في تونس وفي بقية الدول العربية التي بدأت تتمرد على السائد والمألوف وتتطلع الى مزيد الحريات والانعتاق من احكام التقاليد البالية المتوارثة ومعها الارث الثقيل لعقود طويلة من الاحتلال واستنزاف الشعوب والثروات... والحقيقة أنه سيكون من غير الموضوعي اعتبار أن الفرانكوفونية متعلقة أساسا بتعزيز موقع اللغة الفرنسية التي سجلت الكثير من التراجع في العقود الماضية مع هيمنة الانجليزية والصينية التي بدأت تزحف بدورها الى فضاء المستعمرات الفرنسية السابقة.. ولاشك أن الذين اشتركوا في التاسيس لمنظمة الفرانكوفونية التي امتدت اليوم لتجمع نحو ثمانين بلدا يعتمد نحو 600 مليون من سكانها اللغة الفرنسية وبينهم طبعا ايميل سيزر وسنغور وبورقيبة فان الاكيد أن الفرانكوفونية تعني أيضا الانتصار للقيم الانسانية الكونية ولتعزيز ثقافة الحريات العامة والحريات الخاصة في أشمل معانيها والتي من شأنها أن تنتصر لانسانية الانسان وكرامته بمنأى عن لونه او انتمائه الجغرافي أوالعرقي اوالديني او غيره وهي معركة ليست بالهينة ولا يمكن الانتصار فيها باعتماد النصوص والاحكام القانونية التي تدعم الحريات، ذلك أنه اذا كانت المعركة القانونية مهمة في القضاء على كل اشكال الميز العنصري والظلم فان المعركة الاهم تبقى معركة العقليات التي قد لا يكون دوما بالامكان دفعها للتغيير والتخلي عن موروث ثقيل بالاحكام المسبقة والنظرة الفوقية والرغبة في الهيمنة واستصغار الاخر لاي سبب كان بسبب الاعاقة او اللون او الجنس او الفقر او المعتقد او غيره.. ومن هذا المنطلق فانه سيتعين على تونس الاستعداد للموعد والرهان على أن تكون بلادنا في حجم الحدث الذي سيستقطب انظارالعالم كبلد عربي يدين اغلب سكانه بالاسلام ولكن ايضا كبلد افريقي وهنا مربط الفرس... ولعل في اختيار الامين العام لمنظمة الفرانكوفونية لتكون امرأة ومن بلد افريقي رسالة مهمة على أن افريقيا ليست بالقتامة والتخلف والتردي الذي قد كانت عليه وأن افريقيا اليوم جزء من المستقبل وقد باتت قبلة القوى الاقتصادية الكبرى ومحل تنافس القوى الصاعدة باعتبارها اهم سوق اقتصادية واعدة واهم مصدر لا للمواد الاولية فحسب ولكن أيضا للثروة البشرية المتنوعة... ولا شك ان في اختيار لويز موشيكو واسو وزيرة خارجية رواندا لهذا المنصب ما يعني تعافي هذا البلد الذي كان قبل نحو عقدين عنوانا لاسوا وأفظع حرب عرقية دموية بين الاقلية الهوتو والتوتسي فيه وان هذا البلد الذي تجاوز مرحلة الحرب الاهلية يتجه لكسب معركة البناء والاعمار ويشهد تطورا مذهلا في النمو الاقتصادي وفي تحوله الى بلد يتسم بالاستقرار... ومن هنا ربما أهمية الفرانكوفونية كثقافة مشتركة جامعة للقيم العالمية التي تسمو بكرامة الانسان وحقوقه وتدفعه الى رفض العنف والتمرد على كل محاولات الاستنزاف لحقه في الحياة ومن هنا ايضا اهمية الاستثمار في الرهان على ان تكون افريقيا عنوانا لاكبرانواع التحدي والعودة للاستثمار في بناء القارة السمراء ومساعدتها على الخروج من دائرة الفقر والاوبئة لتكون حاضنة لتلك الاجيال من الشباب المستنفر في رحلة الموت المستمرة واللهث خلف تجار وسماسرة البشر بحثا عن وطن بديل بعيدا عن البؤس الذي نشأوا وتعوّدوا عليه.. ... الرئيس الفرنسي ماكرون صرح بان اللغة الانجليزية للاستهلاك وان الفرنسية لغة الابتكار وهو اذا لم يترجم عمليا فلن يكون للمنظمة ما تفخر به في ظل العولمة المفرطة.. ومن هنا أيضا ضرورة الابتكار حتى لا يكون الاندثار... وبداية الابتكار مع التخلي عن الاحكام الجائرة للحد من الهجرة غير الشرعية والتوجه لاعادة الامل في افريقيا والاستثمار في مستقبل شبابها والتوقف عن عقد صفقات السلاح والتدمير والتوجه للتخلص من العقلية الاستعمارية بما يساعد شعوبها على الاستقرار والبناء فيها...