نعود مرة أخرى للحديث عن الإصلاح التربوي الذي لا يزال يراوح مكانه لو استثنينا بعض الإجراءات الجزئية التي اتخذتها الوزارة في بداية السنة الدراسية الحالية . وسنطرح الموضوع من زاوية علاقته العضوية بالنظامين الاقتصادي والاجتماعي في تونس فهل نستطيع أن نهمل مظاهر النظام الاقتصادي المكشوفة للجميع أو نتغاضى عن التفاوت الاجتماعي السائد وتراشحهما مع المنظومة التربوية عند الحديث عن أي إصلاح مرتقب ؟ الوضع الاقتصادي إن المنظومة التربوية التونسية مدعوة إلى أن تتناول السياسة الإصلاحية القادمة بطريقة عقلانية تحدد العوامل المؤثرة في إصلاح النظام التربوي من الداخل وفي علاقته بالضغوطات الخارجية التي تواجهه والتي يؤثر تفاعلها فيما بينها ويؤدي إما لفشل الإصلاح أو لنجاحه. إن مراعاة تفاعل كل تلك العوامل معا يسمح للمنظومة التربوية بتحقيق أهدافها المجتمعية وتحقيق فرص النجاح التي يصبو إليها المتعلمون . لذلك من الضروري أن يكون لكل تلك العوامل دورها في بناء الإصلاح التربوي من ذلك النظام الاقتصادي بما فيه من تناقضات مؤثرة على تكوين شخصية المتعلم فالمدرسة مؤسسة منتجة ضمن آليات الإنتاج المختلفة في المجتمع ويتمثل دورها في إنتاج الكفاءات للعمل في السوق الاقتصادية الوطنية أو العالمية . فإذا كانت السوق الاقتصادية تنتشر فيها مظاهر الفساد والتهريب والتجارة الموازية والفوضى والتهرب من الضرائب والاحتكار والاستغلال الفاحش وتسيطر عليها عوامل الربح دون غيرها ، فمن المنطقي أن تبرز آثارها في المنظومة التربوية لذلك من الضروري مراعاتها عند إعداد الإصلاح. وسنذكر مثالا على ذلك الدروس الخصوصية : أليست المدرسة الموازية المفروضة على الأولياء (الدروس الخصوصية) انعكاسا لتلك الظواهر الاقتصادية في المنظومة التربوية والتي تجعل من الدرس الخاص مفتاح النجاح قبل الدرس النظامي في القسم بل وأحيانا تلغي النظامي لصالح الموازي وهذا يكرس سياسة اللامساواة التربوية ويجعل العملية التربوية مرتبطة بعوامل الربح والخسارة بين المتعلمين الذي ويظهر ذلك جليا في نتائج التلاميذ وهذا ما شوه صورة المدرسة مثلما شوهت السلوكات الخارجة عن القانون صورة النظام الاقتصادي . ومع أن ذلك الموجود في النظام الاقتصادي يؤثر سلبا على المتعلمين الذين تعلمهم المدرسة القواعد الاقتصادية السليمة والسلوكات الإنتاجية الداعمة للاقتصاد إلا أن العكس كذلك صحيح لدور المدرسة في بناء الاقتصاد فتقوم المدرسة بتوفير ما يطلبه منها الاقتصاد من معارف ومهارات . التفاوت الاجتماعي وفي نفس السياق فإن المنظومة الإصلاحية التربوية محتاجة إلى دراسة التفاوت الاجتماعي والفردي بين الجهات ومراعاتها في الإصلاح لأن المجتمع هو الذي يشكل التربية كما قال «باولو فرير «في كتابه تعليم المقهورين 1985 ، وإن الالتحاق بالمدرسة لا يجعل حظوظ الأطفال من التعليم متساوية ولأن السياسة التربوية وحدها غير قادرة على معالجة نمط العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع وفي المدرسة . إن بنية المجتمع هي المهيمنة على النظام التربوي فالتفاوت بين الجهات يعكسه في المنظومة التفاوت في الفرص التعليمية وفي البنية التحتية ويعكسه أيضا عدم تكافؤ الفرص بين المدن والأرياف والمناطق الساحلية والمناطق الداخلية . وبما أن المدرسة هي مجتمع مصغر فإنه يجري فيها ما يجري في المجتمع . ولو أخذنا مثالا عن العنف الملاحظ في المجتمع للاحظنا أنه العنف نفسه الموجود في المجتمع وخاصة العنف اللفظي والعنف النفسي .ونظرا لعلاقة التعليم المدرسي بالأخلاق الاجتماعية وبالقيم السائدة في المجتمع وبالتراث الثقافي فإن كل مظاهرها تكتنفها المدرسة . لذلك وفي علاقة المنظومة بالمجتمع نجدها تعيد إنتاج التوازن أو التفاوت الاجتماعيين القائمين وتستجيب لطلبات المجتمع بتوفير الموارد البشرية التي يريدها بعد تمكينها من التنشئة الاجتماعية اللازمة . وفي الختام ، إن القيام بأي إصلاح تربوي يتطلب دراية معمقة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا واستبطانه وإدماجه في بناء استراتيجيات الإصلاح حتى لا يكون الإصلاح ديكورا يزين المنظومة التربوية ولا يغوص في حيثيات محيطها . (*) باحث وخبير تربوي