انتظم تحت اشراف الاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة يوم 12 أكتوبر 2012 ندوة لتدارس مطلب الاصلاح لمنظومة التربوية باعتباره من الشواغل الراهنة والمسائل الوطنية الحارقة خصيصا في ظلّ ما تعيشه الساحة الوطنية من تنافس أيديولوجي وسال سياسيّ بين الاطراف والقوى الفاعلة في المجتمع المدني والسياسي بعيد انتفاضة 14 جانفي 2011. حيث افتتح الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة المسؤول عن قسم المرأة والشباب العامل والجمعيات الأخ محمد بالخير وبيّن اهمية المسألة التربوية لدى المنظمة الشغيلة ورحب بالضيوف الكرام وأكد على الدور الأساسي والمحوري للمهتمين بالشأن التربوي اليوم خاصة بعد الثورة الثورة لا يمكن نجاحها الا بثورة تربوية شاملة تؤكد على المكاسب وتستشرف مستقبل المدرسة العمومية. المنظومة التربوية ومعايير تشخيص الأزمة لقد توافقت الاطراف المتدخلة من المحاضرين على أن ازمة المنظومة التربوية قد استفحل مرضها بفعل ما ألمّ بها منذ سنوات طويلة من تهالك نسبوي واخلالات وظيفية عميقة. ان العمل على تشخيص علامات وأعراض الأزمة شكّل لدى المشرفين وضاع القرار التربويّ مطلبا عاجلا تحديدا إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن التشخيص الدقيق يوفرّ تنصف المسافة في تصوّر الحلول الحلول الناجعة والفاعلة وتجاوز الحلول الترقيعية والارتجالية الرّعناء. وفي مداخلتين للاخوة لطفي صواب متفقد مادّة الفرنسية والاخ نبيل الهواش عضو النقابة العامة للتعليم الاساسي وعضو نقابة المتفقدين أكدا من موقع الاشراف البيداغوجي انّ رصد الاخلالات في تفاصيلها الدقيقة والشمولية من القاعدة الى قمة هرم المؤسسة التعليمية يعدّ مسألة عصيّة نظرا الى أن المؤسسة التربوية. بمدخلاتها ومخرجاتها بهياكلها وأجهزتها أو بوظائفها وعلاقاتها مع الواقع الاجتماعي التاريخي تعدّ نمطا معقدا ومركّب وفقا لمعايير التصنيف العلمي للوقائع من منظور علم اجتماع المعرفة وعلوم التربية والاستراتيجيات البيداغوجية. ورغم التسليم بصعوبة الرصد والوصف والتشخيص فإنّه بالامكان اجرائيا ومنهجيا المراهنة على المقاربة النفسية التي تنزّله المؤسسة التربوية او التعليمية ضمن الظاهرة الاجتماعية الشاملة، التي تتقاطع فيها كل العوامل والمجالات والتشريعات والهياكل الفاعلة في المسح الاجتماعي، الاقتصادي السياسي والايديولوجي، في الحقيقة تعاني المنظومة التربوية من تراجعات وإخلالات هيكلية ووظيفيّة، كما تتسم بمفارقات صارخة جعلت المسؤولين وصناع القرار التربوي يشعرون بالحيرة والدهشة حيال حجم الانهيارات في هذا المجال الحيويّ الوطني. لقد انعكست أزمة المنظومة، التربوية في التصنيف المتدني جدّا والكارثي من قبل المنظمات الأممية والدولية المتخصصة فأنّ يحلّ النظام التربوي التونسي في المراتب الاخيرة فتلك علامة ان التقهقر قد وصل الى الحدود القصوى. وعليه، فان ما يجعل من أزمة المنظومة التربوية معضلة حقيقية هو انها تبدو على الاقل ظاهريا غير قابلة للحل لا كميا رياضيا ولا كيفيا ونوعيا وخصوصا في المدى المنظور للعشرية القادمة. وكما يعلم الجميع فليس من اليسير تغيير الأذهان والأفكار وتغيير الأجيال والرؤى قياسا على تغيير المواد والتقنيات وأدوات العمل والانتاج وبالتالي السيطرة على الاشياء والوقائع المادية. ودون الانزلاق في السوداوية والأنفاق المظلمة ما يسمى المنظومة التربوية اليوم هو التفاوت ينعكس على الواقع التربوي ولجمهور المتعلمين وللأسف شعارات تكافؤ الفرص بين الجهات سواء على مستوى مدخلات ولا مخرجات المنظومة التربوية عموما. إن المنظومة التربوية التي كانت لعيد الاستقلال وتحديدا انطلاقا من قانون 1958 تمثل عاملا من عوامل بناء وأسس الدولة المدنية الحديثة والمجتمع المفتوح على الأفق الرحب للحضارة والانسانية. ولكن قد يغمرنا الاحساس بالاحباط الجماعي نتيجة لما تعانيه المنظومة التربوية من نسقين متنافرين. نسق الارتقاء والنجاح الكمي المؤدي الى الاشهار المكثف. نسق الفشل المدرسي وهدر الطاقات البشرية وما يترتب عن ذلك من ظهور لآفات اجتماعية كامنة في انحراف الاحداث والطفولة الجانحة. وكيفما كان التشخيص فانه لا يمكنه التغاضي عن ظاهرة العنف المدرسي وما تعاني منه المنظومة التربوية من تضارب بين الاهداف المعلنة على صعيد النصوص التشريعية والاختلالات السائدة على مستوى الممارسة العلمية اذ جوهر الازمة يكمن ايضا في غياب الربط الوظيفي والملموس بين التكوين المدرسي والاكاديمي وسوق الغشل لمتطلباته وحاجاته الى قوة العمل الماهرة المتخصصة والكفؤة. وما تجدر ملاحظته في هذا السياق هو ان الجامعة التونسية بانخراطها منذ عقدين على الاقل في فخ اللعب بالاشهار تكون قد ساهمت بتواطؤ مباشر أو غير مباشر في تكريس معضلة القطيعة مع المؤسسة الاقتصادية وغياب الشراكة مع دواليب الانتاج للخيرات والثروات المادية. في خضم ذلك، هناك بعض التجارب المحدودة لشراكة خجولة بين المنظومة التربوية والمؤسسة الاقتصادية تمثله في تجربة «شركة كومار للتأمين»، وتجربة «البنك التونسي». ودون الدخول في التفاصيل الدقيقة، فان سياسة الفصل في المنظومة التربوية بين التخصصات العلمية والمواد الانسانية تمثل نقطة سوداء ينعكس سلبا على منوال تمثل الفرد والمجتمع للغايات من الانخراط في المدرسة والارتقاء في المنظومة التربوية. الانخراط في المدرسة وتكمن التبعات السلبية في تكريس تصور نمطي اقترابي بوظيفة المعرفة والتكوين الاكاديمي في المجتمع. المعرفة وسيلة وأداة التحقيق الغايات النفعية. المدرسة فضاء للتلقين وحشد الادمغة. العائلة مدعوة الى تدعيم منظوريها بواسطة الدروس الخصوصية نظرا الى أن الشعب العلمية والتقنية أصبحت الملاذ الآمن للانخراط في سوق الشغل. تطور جمهور الشباب من الانخراط في الشأن العام والاستقالة من المساهمة في أنشطة منظمات المجتمع المدني والمجتمع السياسي. مثال: في انتخابات 23 أكتوبر 2011 تبرز البيانات الاحصائية ان 7٪ من فئة الشباب قاموا بالمشاركة في الانتخابات وهذه مفارقة مختومة بحاكم تونسي. ان من ناحية ساهم الشباب في حراك الانتفاضة الشعبية ولكنه لم يجن منها شيئا على الاقل الى حد الآن. ان التشخيص المنطقي والموضوعي لأزمة المنظومة التربوية لا يعطي المسؤولين (أصحاب القرار) والمربين من ممارسي النقد لتصوراتهم وآدئهم وسلوكهم المهني حيث أضحى العمل التربوي مختزلا في وظيفة ادارية بيروقراطية وعمل مأجور. وعندئذ، فان هذا النمط من التفكير والسلوك يفضي في حقيقة الامر الى التجريح في صورة المربي ومعايير تقديره لذاته ولرسالته الاتيقية والسياسية الثقافية. واذا كانت المنظومة التربوية تشكو من عديد الاخلالات فان واقع المستجدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تجعل القوى الفاعلة والمسؤولة على الصعيد الوطني في حاجة عاجلة الى بناء مسافة نقدية من الواقع التربوي القائم لهدمه واعادة بنائه على أسس ومعايير جديدة كل الجدة بما يتوافق مع تطلعات الارادة الشعبية لتأسيس منظومة تربوية ابداعية، عمومية، عادلة وديمقراطية ليساهم في نحت استراتيجياتها ومشاريعها كل من موقعه بعيدا عن التمييز والاقصاء او التهميش والوصاية الايديولوجية الكامنة وراء الضجيج الحزبي والسياسي. إن بناء مشروع مجتمعي متناغم على الاقل نسبيا مع الشعارات والانتظارات والتحديات الحقيقية يعد أكبر مطلب تاريخي تواجهه المنظومة التربوية والارادة السياسية منذ اصلاح 1958 لا سيما في ظل تنامي الصخب الايديولوجي حول «الاصالة والحداثة» التعليم العلماني في مقابل «التعليم الديني» و «الشرقنة» في مقابل الغربنة. وهكذا تصبح مبادرة الاصلاح التربوي مفتوحة على مفترق طرق متصل اتصالا ظرفيا وعضويا بما ستفرزه ساحة التنافس الايديولوجي والسياسي حول المواعيد الوطنية القادمة تخصيصا بعد الخروج من المرحلة التأسيسية والانتقالية الراهنة فهل سيكون الاصلاح القادم متناغما مع تطلعات الشعب التونسي، التجربة والتقدم والعدالة الاجتماعية أم ان المنظومة ستبقى حريصة على تقديم فروض الولاء والطاعة للحاكمين الجدد. ها هنا لا تفوتنا الفرصة دون الاشارة الى التناسب بين شعارات الثورة الفرنسية وشعارات الانتفاضة الشعبية التونسية. لقد أكد قائد الثورة الفرنسية على أهمية المنظومة التربوية قائلا: «بعد الخبز ان الحاجة الاولى للشعب تتمثل في التربية». أما أفواه المحتجين على الاستبداد والطغيان فلقد تعالت رافعة شعار «خبز حرية وكرامة وطنية». لتصوراتهم وآدائهم ورؤاهم العقائدية وغاياتهم السلوكية حيث قلصت الرسالة التربوية الى مجرد وظيفة ادارية بيروقراطية وعمل مأجور مثل سائر الاعمال وهذا النمط من التصور والسلوك يفضي في واقع الامر الى تشويه صورة المربي وتقديره لذاته ولمجتمعه في علاقة عضوية ووظيفية برسالته الايتيقية والسياسية التاريخية. واذا كانت المنظومة التربوية تشكو اليوم من تسلط الماضي المنيخ على الحاضر، فان واقع الاسرة التربوية على الصعيد الوطني وكل الفاعلين الاجتماعيين مدعوين اليوم الى المضي قدما بخطى حثيثة ودون ارتجال الى نحت الارادة السياسية وتجديل الدور التاريخي لبناء استراتيجية تربوية وطنية ابداعية تقدمية، عادلة وديمقراطية يساهم فيها الجميع كل من موقعه بعيدا عن التمييز والاقصاء، او التهميش والوصاية الايديولوجية التي تدس السمّ في الدسم بشكل محايث للاختلافات الحزبية. والخلافات السياسية العميقة في الرؤى والتصور لنموذج المجتمع المنشود اليوم. وعليه، فان بناء مشروع مجتمعي متجانس ولو نسبيا مع الشعارات والمطالب الحقيقية للانتفاضة الشعبية يعد اكبر حدث تاريخي تواجهه المنظومة التربوية منذ لحظة الاستقلال.