رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في تاريخ الاصلاح التربوي: من المسعدي إلى جلول
نشر في حقائق أون لاين يوم 29 - 06 - 2016

لفكرة الإصلاح التربوي عموما و إصلاح المنظومة التربوية خاصة مسار بيّن واضح في تاريخ تونس الحديث و المعاصر في مرحلتي ما قبل الاستقلال و ما بعده فقد شهدت البلاد التونسية قبل الاستقلال و بناء الدولة التونسية الحديثة محاولات إصلاحية عديدة منها الإصلاحات المرحلية التعديلية و منها الهيكلية التي استهدفت المؤسسة التربوية و أداءها البيداغوجي، فأنت تلاحظ بيسر بوادر التجديد و التطوير في جملة من المبادرات منذ القرن التاسع عشر حين اهتم المصلحون بالتربية و التعليم اهتماما سيمهد لاحقا لجملة من الإصلاحات الكبرى مع شخصيات و مشاريع تونسية كمحاولات إصلاح التعليم و تجديده مع أحمد باشا باي ( 1837_1855) الذي أسس المدرسة الحربية بباردو عام 1840 و خير الدين التونسي الذي جعل من المدرسة الصادقية سندا لتحديث التعليم الديني حتى يكون عصريا مواكبا لما طرأ من نماء و "نهضة" على المستوى الأوروبي خاصة .
بل إنك لتقف عند مقاربات نظرية و فكرية و أخرى هي أقرب إلى ورقات عمل فنية و إجرائية تستهدف "المنظومة التربوية " و تعاضد مجهود الإصلاح أو تمهد له بمقاربات تضمنتها كتابات لرواد تونسيين مثل آراء بن خلدون في مقدمته حول التعليم: منزلته وإشكالياته و سبل تطويره من حيث البرامج و المناهج و المقاصد و قد أفردابن خلدون بابا خاصّا (الفصل السادس) من مقدّمته لقضايا التربية والتعليم وكان أكبر باب في الكتاب وهو ما يدّل على الأهميّة التي يوليها لموضوع التربية.
يقول بن خلدون في سياق حديثه عن البرامج التعليمية و مهارات المتعلم " فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون و عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة " ( ابن خلدون , المقدمة , دار الجيل , بيروت ص 478\479) ،وملاحظات الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في "أليس الصبح بقريب؟" و منها اعتبار مجال التربية أحد أدوات نهضة الشعوب و نمائها يقول" إذن كان واجبا علينا خدمة للأمة و تهيئة للنشأة العلمية التي تزين مستقبلنا و تجمل ماضينا أن ندخل تلك المجاهل , نرفع بإحدى يدينا مشاعل النور و نقطع بالأخرى ما يمانع من حجرات العثور , فإن لم نصل بعد إلى غاياتها فعسى أن لا نبعد "( الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – مقدمة أليس الصبح بقريب ).
إلى ذلك ساهمت تساؤلات الطاهر الحداد في مواضع عديدة في تبين إشكاليات الواقع التونسي الفكرية و الاجتماعية .
انخرطت تونس بعد الاستقلال في محاولات إصلاحية جديدة يمكن إرجاعها إلى ثلاث مراحل كبرى هي عناوين رئيسية في سياق سيرورة الإصلاح التربوي في تونس أولها إصلاحات محمود المسعدي و ثانيها إصلاحات محمد الشرفي ( و هما مرحلتان يمثلان طور "الحدث" الإصلاحي في مجال التربية و التعليم ) ثم لاحقا و ثالثا إصلاحات ناجي جلول التي تعكس "حداثة" الفكرة و المشروع مثلما سنبين لاحقا .
وجب علينا في هذا الإطار توضيح بعض الملاحظات المنهجية المتعلقة بالتصنيف و التحقيب الذي اخترنا ومنها :
* المطابقة بين "الإصلاح"(أي إصلاح) و "إصدارالقانون " و جعلهما متلازمين متماهيين يجعل مسار الإصلاح التربوي في تونس على أربعة مراحل أو أكثر إذا أدرجنا كل القوانين التي اهتمت بالشأن التربوي منذ إرهاصات الإصلاح الأولى في القرن التاسع عشر وهي مرحلة قانون 1958 و قانون 1991 و قانون 2002 ثم لاحقا جملة القوانين التي ستصدر عن الإصلاح التربوي الحالي.
* إننا لا نعقد علاقة تطابق أو تلازم بين فكرة الإصلاح و إصدار القوانين إذ الإصلاح التربوي إنما هو مشروع يستهدف " المنظومة "لا بالقوانين و النصوص فحسب وإنما بمنهجية و خطة عمل تستند إلى جملة من الشروط نراها متحققة بتفاوت في المراحل التي اخترنا أن تكون مفاصل الإصلاح الكبرى .
* لقد بدا لنا أن بين اجتهادات محمود المسعدي و محمد الشرفي من جهة و المشروع الإصلاحي كما رآه ناجي جلول من ناحية أخرى تشابها و تقاربا و اختلافات أيضا جعلت حسب رأينا مشروع الإصلاح التربوي بعد الاستقلال على طورين أولهما طور "الحدث الإصلاحي" مع محمود المسعدي و محمد الشرفي و طور "حداثة الإصلاح" مع ناجي جلول.
1. الحدث الإصلاحي
- إصلاحات محمود المسعدي : من مواجهة الاستعمار إلى إرساء الهوية التونسية :
استهلت الدولة التونسية الإصلاحات بإشراف محمود المسعدي كاتب الدولة للتربية القومية و الشباب و الرياضة في 1958\1959 وقد سعت (بتوصيات و إرادة سياسية بورقيبية واضحة ومعروفة " إلى تجاوز هنات برامج التعليم عموما في مرحلتيه الابتدائية و الثانوية و جعله قريبا من المواطن التونسي حيث كان يقول الحبيب بورقيبة "..يجب ان يكيف التعلم بما يمكننا من ملاحقة ركب الحضارة و تدارك ما فاتنا من مراحل , و نحن عازمون على ذلك مهما كانت التكاليف و الاعتراف بالواقع مدعاة لتهيئة الأسباب لتغييره .."( من بيان الحبيب بورقيبة الأسبوعي 25جوان 1985) و قد كان من توجهات إصلاحات 1958 الكبرى ك:
* تعميم التعليم و ضمان حق تكافؤ الفرص ليكون البرنامج شاملا جامعا لكل التونسيين يقع في إطاره تزكية الشخصية و تنمية المواهب الطبيعية عند جميع الأطفال ذكورا و إناثا " دون أي تمييز بينهم لاعتبار جنسي أو ديني أو اجتماعي ".
* ,تعليم يوازي في مرحلته الثانوية بين حاجيات المجموعة الوطنية الشغلية والتقنية والاقتصادية من ناحية و ميولات المتعلم و " أحلامه " من ناحية أخرى.
* إعداد الطفل للقيام بدوره كمواطن و إنسان حتي يكون من الكفاءات المساهمة في "نمو النشاط القومي"
* و قد قام الإصلاح التربوي حينئذ على مبادئ عامة لعل من أهمها ضرورة تجديد التربية و التعليم بما يواكب العصر وتحولاته إقليميا , يقول بورقيبة : " أنتم تعلمون قيمة المدرسة الصادقية و تأثيرها في النهضة التونسية الحديثة ..فهي الحجر الأساسي في الثقافة القومية العصرية .."( خطابه في المدرسة الصادقية , 25 جوان 1958)
* اعتبرت إصلاحات المسعدي أن للمدرسة التي تسعى الدولة التونسية إلى إنشائها رسائل أخلاقية و وطنية تجذر الهوية المحلية في وجدان روادها فضلا عن وظيفتها التربوية التكوينية لذلك انكب المشرفون على الشأن التربوي على إعداد مدارس تكوينية و خبرات لتعليم اللغة العربية و التعريف بتونس تاريخا و سمات ثقافية و حضارية قصد إرساء نموذج موحد يؤسس لهوية جديدة هي "الهوية التونسية". فكل ما أنجز إلى يومنا هذا وما سيتمّ إنجازه في المستقبل من البرامج التي أقرّها الإصلاح والتخطيط يدخل في نطاق المعركة الكبرى التي تخوض غمارها الأمة بهدي من قادتها سعيا وراء القضاء على التخلّف وإبراز الشخصيّة التّونسيّة في مختلف ميادين الفكر والعمل. " (تقرير كتابة الدولة للتربية القومية 1963ص 6)
* لقد اعتبر القانون رقم 118 لسنة 1958 ( المؤرخ في 4نوفمبر 1958 و المتعلق بالتعليم ) أول أساس للنظام التربوي التونسي بعد الاستقلال ,تبنى نمطا تعليميا منفتحا على اللغة و الثقافة الفرنسيتين مع سعي إلى الحفاظ على اللغة العربية و تعريب المواد العلمية في عهد محمود المسعدي ثم لاحقا مع محمد مزال
- إصلاحات محمد الشرفي : من الهوية الوطنية إلى الهوية الكونية :
خلاصة الإصلاح الذي أنجز أواخر الثمانينات من القرن العشرين تضمنتها وثيقة القانون عدد 63 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 ومن مبادئه العامة وأهدافه " تمكين الناشئة منذ حداثة عهدها بالحياة بما يجب أن تتعلمه حتى يترسخ فيها الوعي بالهوية الوطنية التونسية و ينمو لديها الحس المدني و الشعور بالانتماء الحضاري وطنيا و مغاربيا و عربيا و إسلاميا و يتدعم عندها التفتح على الحداثة و الحضارة الإنسانية مع تربية الناشئة على الوفاء لتونس و الولاء لها" .
و قد كانت من أهم إجراءاته :
* إرساء التعليم الأساسي .
* تعريب و تدريس المواد العلمية في الابتدائي و الثانوي .
* بث قيم التربية على حقوق الإنسان والحقوق المدنية فسميت مادة التربية الوطنية باسم مادة التربية المدنية و فصلت عن مادة التربية الإسلامية .
* إنشاء إطارات التدريس و التفقد البيداغوجي و تكوينه.
يذكر أن إصلاحات أخرى ستنجز مع منصر الرويسي سينص عليها لاحقا القانون عدد 80- 2002 المؤرخ في 23جويلية و هو القانون المعروف باسم " القانون التوجيهي للتربية و التعليم المدرسي " الذي أقر مجموعة من الإجراءات منها :
* مواكبة التطورات التربوية الدولية نظريا و منهجيا
* إرساء المقاربة بالكفايات و توظيف التكنولوجيا الحديثة .
* اعتماد بيداغوجيا المشروع و التحفيز على اعتماد البيداغوجيا الفارقية
* إعادة النظر في التوجيه المدرسي و المسالك المؤدية إلى شهادة الباكالوريا تفاعلا مع سوق الشغل و التحولات الاجتماعية و الاقتصاديا محليا و إقليميا و دوليا .
* مواصلة العمل على تجذير الهوية الوطنية مع الوعي بأهمية الانتماء الحضاري الموسع, فالمدرسة تهدف إلى " تنشئة التلاميذ على الوفاء لتونس و الولاء لها وعلى حب الوطن و الاعتزاز به و ترسيخ الوعي بالهوية الوطنية فيهم و تنمية الشعور بالانتماء الحضاري في أبعاده الوطنية و المغاربية و العربية و الإسلامية و الإفريقية و المتوسطية و يتدعم عندهم التفتح على الحضارة الإنسانية .
* المناهج الرسمية للتعليم أكدت ما يلي :
- الاعتزاز بمكونات الهوية الوطنية و الوحدة القومية العربية و التعلق بتعاليم الإسلام ووحدة المغرب العربي لذلك حرصت الدولة على دعم تدريس اللغة العربية بالتعريب و دعم ساعات تدريسها في مستوى الأقسام النهائية بالشعب العلمية
1. الإصلاح التربوي مع ناجي جلول : من الحدث و التحديث إلى المشروع الحداثي
للمحاولتين الإصلاحيتين المذكورتين ( إصلاحات محمود المسعدي ومحمد الشرفي) عدة مكاسب و إنجازات ساهمت في تطوير المؤسسة التربوية, إلا أن ذلك لا يمكن ان يحجب عن الناظر في المشهد التربوي إشكاليات جعلت من إطلاق مشروع إصلاح تربوي جديد أمرا ملحا و قبل أن نورد ما به صار الإصلاح التربوي الحالي شكلا من اشكال الفعل الفكري والحداثي نقدم بعض الملاحظات حول حدود المشروعين الإصلاحيين السابقين و مواطن الخلل فيهما حتى تتضح أهمية إطلاق الحوار الوطني حول الإصلاح التربوي الذي دعت إليه وزارة التربية بإشراف الدكتور ناجي جلول .
3-1 قراءة موجزة في "حدث الإصلاح و خطاب الهوية"
* يبدو ان مشروع الإصلاح التربوي مع محمود المسعدي أحدث قطيعة مع ما سبق من أفكار واطروحات فأنصار التعريب عابوا على المسعدي عدم التواصل مع تجارب سابقة بالتحليل والاستقراء والتوظيف فلم يبن مقاربته -حسب من نقد المقاربة و الفكرة - على مقترحات وزير التربية الأسبق في حكومة الاستقلال الأمين الشابي لاختلاف في وجهات النظر .
* ارتبط المشروعان الإصلاحيان السابقان في مجال التربية بأهمية القرار السياسي و هيمنته على مسار التجديد التربوي و نحن إذ لا ننفي أهمية أن تكون ثمة إرادة سياسية تؤسس للإصلاح في أي مجال كان فإننا نشير إلى ارتفاع منسوب النجاح و النجاعة حين تقوم الخطة الإصلاحية على مبدإ التشارك والحوار و التفاعل بين مختلف الأطراف من الدوائر السياسية و الإدارية و الاستفادة من المنظمات الاجتماعية و المجتمع المدني ذات الصلة بالمشغل التربوي .
* من العوائق التي واجهها مشروع الإصلاح التربوي منذ الاستقلال ضمور الجانب النظري و ضبابية المنهج والدلالات وتداخلها حد اللبس أحيانا و الاضطراب في مستوى " المصطلح" و " المفهوم" من ذلك ما طرحه مشروع محمد الشرفي من مقاربات تعتمد مفاهيم غير واضحة كالهوية الوطنية و الوحدة القومية و الفكر الإسلامي ...
* اعتماد المؤسسة التربوية في ظل ما سبق نماذج تعليمية وافدة بطريقة شكلية متسرعة حينا مترددة أحيانا أخرى فلم يكن التحديث تبعا لذلك شاملا دقيقا و لم يكن التأصيل واضحا عميقا .لذلك دعت عدة اطراف إلى تجديد المشهد التربوي بإصلاحات اكثر جدوى و أبعد مدى .فالتحديث والتأصيل لم يتجاوزا مستوى السطح. والحداثة ما كانت إعادة إنتاج للنموذج الجاهز و المنوال الوافد دون قراءة نقدية واعية و روح إبداعية مبتكرة للحلول و المشاريع .
* الدولة التونسية بعد الاستقلال انشغلت ببناء ذاتها و مؤسساتها و تجاوز ما ترسب من تخلف و ضعف معرفيين و تربويين فضلا عن إلزامية تكوين هياكل الدولة و مؤسساتها بكفاءات تونسية في إطار مشروع "التونسة" والهوية الوطنية (كلّ ما أنجز إلى يومنا هذا وما سيتمّ إنجازه في المستقبل من البرامج التي أقرّها الإصلاح والتخطيط يدخل في نطاق المعركة الكبرى التي تخوض غمارها الأمة بهدي من قادتها سعيا وراء القضاء على التخلّف وإبراز الشخصيّة التّونسيّة في مختلف ميادين الفكر والعمل."[2 تقرير كتابة الدولة للتربية القومية 1963] لذلك كان على المشروع الإصلاحي ان يغلب الجانب الكمي على الكيفي و إن لم يلغ المشرفون على الشأن التربوي آنذاك البحث عن سبل "تجويد الفعل التربوي " و لم يغفلوا عنه باعتباره هدفا استراتيجيا من اهداف الإصلاح التربوي .
* ظلت المدرسة التونسية تبعا لذلك و لأسباب أخرى لا تلبي انتظارات التونسي و آماله نظرا لنهج تقييمي بالغ في الانتقائية أو من حيث الكم والكيف في ما بين 1991 و2002، أو من حيث الكيف خاصة في ما بين 2002 و2010 فتعددت إشكاليات المدرسة التونسية الإدارية و البيداغوجية و القانونية كضعف المردود البيداغوجي و التكويني و الانقطاع المدرسي ضعف نسب النجاح وتراجع المستوى المعرفي للتلميذ و تقادم البنية التحتية و اهترائها و توتر العلاقات بين مختلف الأطراف فانعدمت أو كادت مقامات الحوار و تفاقم التسرب المدرسي و سيطرة المنحى الكمّي على البرامج التعليمية وتعددت مظاهر العنف و الغش و التسيب و التطرف
* عموما لم تعد المدرسة قادرة على أداء رسالتها التربوية و الوطنية رغم بعض المكاسب التي حققتها و صارت عاجزة على مواكبة التحولات العميقة التي يشهدها العالم في مجال التربية خاصة , لذلك نرى في مشروع الإصلاح التربوي الحالي بإشراف ناجي جلول دروبا تحاول ان تؤصل للكيان و الهوية بجذور راسخة في تربة التجربة الوطنية لتتعالى في آفاق الكونية و" الحداثة" بالمعنى الاشمل و الأعم .
3-2 إصلاح المنظومة التربوية , ناجي جلول و حداثة المشروع :
لقد بينا بعضا من مكاسب المدرسة التونسية الحديثة و شيئا من إشكالياتها مما دعا وزارة التربية إلى إطلاق حوار وطني حول إصلاح المنظومة التربوية في 23 أفريل 2015 و لعل في سياقات الحوار و الإصلاح و مرجعياته و خطته و استراتيجيته ما يشير إلى خصوصيات ساهمت في إنجاح الفكرة و دفعها قدما للتحقق على أرض الواقع التربوي ليكون الإصلاح التربوي رافدا من روافد التنمية و الحداثة .
يبدو أن ناجي جلول و قد دعا الجميع إلى المساهمة في الحراك الوطني من اجل تجديد المدرسة التونسية ,تفطن إلى مقومات نجاح المشروع من حيث الجوانب الموضوعية العلمية العامة و السياقية التقنية الخاصة و نحن نوردها باعتبارها من آليات الإصلاح التربوي و منهجه على النحو التالي :
3-2-1 في آليات الإصلاح التربوي و منهجه :
* الانتباه إلى ضرورة استقراء الواقع المحلي و الإقليمي و الدولي و تشخيص الواقع قبل تقييمه باعتماد كفاءات و خبرات وطنية تسمح بقراءة المشهد التربوي موضوعيا بعيدا عن حافة الأوهام ودوائر اليأس فكان ان تبنت وزارة التربية مع شركائها اتجاها إصلاحيا يكشف عن حدود ما أنجزته الدولة التونسية في مجال التربية ويستفيد مما أنجزته "تتويجا يقطع مع الارتجال و التسرع و الصدفة و العشوائية" ( من كلمة الدكتور ناجي جلول , الكتاب الأبيض ص 7)
* إعادة قراءة التجارب الإصلاحية السابقة و منها ما ذكرنا من محاولات المسعدي و الشرفي في تجديد المدرسة التونسية فأقر الإصلاح التربوي الذي تقوده وزارة التربية حاليا أن لتونس تقاليد عريقة في مسألة تجديد التربية والتعليم و أن لمدرسة " الاستقلال" فضلا على تونس و التونسيين إذ تخرجت منها كفاءات علمية و ثقافية و سياسية ساهمت في بناء الدولة التونسية الحديثة و إبداء الرأي في جملة الإصلاحات التربوية السابقة مما سمح بحلم بناء الدولة الحديثة الديمقراطية و ترسيخ مفهوم المواطن المنفتح على ثقافات العالم و حضاراته, هذا الإقرار لم يحجب عددا كبيرا من الإشكاليات منها عجز صيغ الإصلاح السابقة على مواكبة التحولات المتسارعة على المستوى الدولي و إن حاولت أن تكون على بينة مما يجري من خلال إصلاحات محمود المسعدي و محمد الشرفي خاصة . "التواصل " فكرة جوهرية في الإصلاح التربوي الراهن ترفض القطيعة و الفصل بين مختلف التجارب و الآراء و قد زاد من نجاعة المقاربة و جدواها اعتماد مشروع الإصلاح التربوي مرجعيات و أدبيات و وثائق استأنس بها الخبراء في رسم ملامح مدرسة " ما كان" لإنشاء مدرسة "ما سيكون "و تبين سبل تطير المشهد التربوي و تجويده.
* ذلك ما سمح بالوقوف على ما صارت عليه المدرسة التونسية من صعوبات و هنات انطلاقا من فراءة متأنية علمية و شاملة( انظر الكتاب الأبيض و المخطط و الوثيقة المنهجية ...) حيث تراجع أداء العملية التربوية و تأسست علاقة نفعية بين المتعلم و المعرفة حتى صار التعليم عبئا وطنيا و تحولت المدرسة إلى فضاء هش تهدده ظواهر سلوكية و معرفية على قدر مبير من الخطورة .
* اعتمد الحوار الوطني خطة تشاركية قاعدية استأنست بالحوار الواسع و الاستشارات و تبادل الآراء في شأن تربوي اعتبره ناجي جلول شأنا وطنيا استراتيجيا و مشروعا " لا يتحقق إلا إذا كان هذا التجسيم مطمحا استقر في وجدان كل تونسي و تونسية و كان هذا الطموح مشغل كل أفراد المجتمع .." ( الكتاب الأبيض ص 9) ذلك ما بدا ضامرا ضعيفا في التجربتين الإصلاحيتين السابقتين.
* مشروع الإصلاح التربوي الحالي ليس إلا تجسيدا للبعد التشاركي و لمبادئ الحوار و التواصل بين مختلف الأطراف ذات الصلة بالمشهد التربوي و إشكالياته و هو ما تجسد في اللقاء الثلاثي على مستوى قيادة الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية، لقاء جمع بين وزارة التربية و الاتحاد العام التونسي للشغل بحضور النقابات العامة لمختلف أسلاك التربية و شبكة عهد للثقافة المدنية وقد مثلها في جلسات الحوار وورشاته المعهد العربي لحقوق الإنسان فقامت فكرة الإصلاح التربوي و مساره تبعا لذلك على "منهجية قاعدية تشاركية "استهلت مشروع الإصلاح بضبط مختلف الإشكاليات و الصعوبات .و قد تعمق البعد التشاركي في مستوى اللجان الفنية التي استهلت اعمالها في 11ماي2016 و استندت إلى مرجعيات الإصلاح التربوي و أدبياته و كل الوثائق و التقارير التي كانت ثمرة مسار الحوار الوطني حول الشأن التربوي لتنظر في التوجهات الكبرى على للإصلاح التربوي و قد توزعت اللجان بحسب المحاور و الأهداف إلى خمس عشرة لجنة اهتمت بما يلي :
القوانين و التشريعات – البرامج و التقييم –التكوين – الموارد البشرية – البناءات و التجهيز – معايير الجودة – التربية الخصوصية – تكنولوجيا المعلومات و الاتصال – التخطيط الاستراتيجي و المالية – البحوث و الدراسات – العلاقات و الشراكات و الإعلام – الزمن المدرسي – الحياة المدرسية – التوجيه المدرسي و الجامعي – الحوكمة و هي محاور تمثل خلاصة لمخرجات الحوار الوطني الذي انعقد في سياق تشاركي بين وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل و شبكة عهد للثقافة المدنية و قد مثلها المعهد العربي لحقوق الإنسان .يذكر أن البعد التشاركي متواصل في سياق أعمال اللجان , هو بعد أساسي من أبعاد المشروع و اللقاء .
* الإصلاح التربوي استهدف المنظومة التربوية و لم يقتصر على قطاع دون غيره فلم يهتم بالبرامج و المناهج بمعزل عن الحياة المدرسية و التجهيزات و المسائل والتسيير الإداري و الحوكمة و قد ربط بين مختلف حلقات التعليم بداية من المرحلة التحضيرية و صولا إلى مرحلة التعليم ما بعد الباكالوريا في تواصل مع الوزارات المعنية ذات الصلة بالطفولة و الاسرة وبالتربية و التعليم و التكوين و التشغيل .مشروع الإصلاح التربوي مع ناجي جلول مشروع "تنمية" فالتعليم عنده " عامل أساسي من عوامل التنمية المستدامة و هو في نفس الوقت مكون من مكونات الرفاه الاجتماعي و عامل من عوامل تنميته عن طريق صلاته بالعوامل الديمغرافية فضلا عن العوامل الاقتصادية و الاجتماعية " ( من الفصل الحاديعشر من برنامج عمل مؤتمر القاهرة 1994 , التقرير الوطني لتقييم مستوى تنفيذ الجمهورية التونسية لبرنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان و التنمية , جوان 2014)
* حداثة المشروع الإصلاحي تبدو في هذا الجمع اللطيف الجريء بين الجانب النظري الفكري الذي يبدو في خلاصات توضح مبادئ الإصلاح و مرجعياته و سياقاته من جهة و الجانب الإجرائي العملي الذي تطالعه بوضوح في وثائق إصلاح المنظومة التربوية كالكتاب الأبيض و ملامح الخطة التنفيذية لإصلاح المنظومة التربوية 2016-2020 و فيه عرض مفصل للتوجهات الكبرى و هي :
* مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص.
* مراجعة الخارطة المدرسية.
* تطوير كفايات الموارد البشرية.
* تطوير مكتسبات المتعلمين وتجويد تعلماتهم.
* تطوير الحياة المدرسية.
* إعادة هيكلة التعليم الإعدادي والثانوي.
* التصدي للفشل المدرسي.
* تطوير توظيف تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعليم والتعلم.
* تكريس مبادئ الحوكمة الرشيدة صلب المنظومة التربوية
فمشروع الإصلاح وعد منذ البداية بالتغيير السريع الناجع وفق مقاربة غير متسرعة و " خارطة طريق تستند إلى العقلانية و تستنير بالطموح و الحلم " تأصيلا للكيان و تحديثا معقلنا و تعصيرا منشودا "( الكتاب الأبيض ص9) يسعى إلى رفع تحديات الإنصاف و الجودة و اندماج المدرسة في الاقتصاد و المجتمع والحوكمة و غيرها من المسائل التي ستغير من ملامح المدرسة التونسية بداية من السنة الدراسية 2016-2017 في مسار تدريجي عقلاني يشد مشروع الإصلاح إلى الواقع في غير استسلام أو تردد مما يجعل الفكرة " حداثية" أ ليس العقلانية و الموضوعية من مستلزمات الحداثة و مرادفاتها.

خاتمة :
إن من أهم مفردات هذا التوجه الإصلاحي تحت إشراف الدكتور ناجي جلول هي " الحداثة" فكرة و منهجا و مشروعا , فقد قام إصلاح المنظومة التربوية على مبادئ و منطلقات أساسية و تخلى في مقابل ذلك عما يعيقه أو يربك سيرورته فحرص المسار الإصلاحي على التواصل مع الماضي و الرصيد التربوي التونسي و جمع إلى الحوار الوطني شركاءه دون إقصاء لأي طرف أو هيكل أو مؤسسة فاستفاد من تجارب محلية و إقليمية و دولية سابقة او راهنة دون انبهار بالغربي الوافد أو استكانة لمحلي أصيل فينا و في هويتنا .
الإصلاح التربوي جسد " حدثا وطنيا" مع محمود المسعدي و محمد الشرفي إذ انخرطت المدرسة التونسية في صراع الهوية و المرحلة البناء , أما الإصلاح التربوي مع ناجي جلول فقد ورد"كتاب حداثة" و مشروع " إصلاح" " جمع التونسيين على مقاربة متينة ببعدها العلمي و استراتيجيتها و أدواتها , حالمة بتحقيق استحقاقات الثورة التونسية ساعية إلى أن تكون تجسيدا حداثيا لنص الدستور التونسي و مبادئه العامة , الإصلاح التربوي اعتبره الدكتور ناجي جلول في خطاباته ( الرسمية و الإعلامية و على صفحات ما نشر من مؤلفات الإصلاح التربوي ) "ثمرة رؤية مشتركة بين كافة الفاعلين في التربية و المستفيدين منها" ( الكتاب الأبيض ص 8) ..لما فيه خير التربية و الوطن " ( الكتاب الأبيض ص 168).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.