بين الأزمة والأزمة أزمات... هذا حال تونس اليوم بعد أن تحولت إلى رهينة مزدوجة بين مطرقة المؤسسات الدولية وسندان حسابات وأهواء النخب السياسية التي تتحكم في حاضرها وتصادر مستقبلها. والأرجح أن المشهد سيستمر على ما هو عليه إلى حين انتهاء «التغريبة» التونسية ورفع الغمة التي فرضتها النخب السياسية على البلاد والعباد... والواقع أن إعلان يوسف الشاهد أن التعديل الوزاري «سيضع حدا للازمة السياسية الراهنة» قد أدخل الحرب الباردة بين القصبة وقرطاج في متاهات جديدة وجعل البلاد مرشحة إلى أسوإ السيناريوهات بعد إعلان رئاسة الجمهورية بدورها عدم استشارتها.. «التغريبة» التونسية فرضت على التونسيين حالة من الغربة في وطنهم، هي غربة فرضتها نخب تعيش في عالم غير عالم عموم التونسيين المنهكين، وهي نخبة تتعامل مع الرأي العام عن بعد، وإذا كتب لها الظهور والتنقل في البلاد، فإن سياراتها المصفحة ونوافذها الداكنة وحراسها المدججين يمنعونها من رؤية بؤس التونسيين ومشاهدة أعداد الفقراء والمتسولين المتضاعف في الشوارع وفي المحطات والانتباه لأعداد التلاميذ المنقطعين عن التعليم من ذكور وإناث والشباب المهمش الذي لا يمكن لمثل هذه المعارك إلا أن تفاقم فيه مشاعر الإحباط واليأس... فإذا كان رئيس الدولة أخطأ في حساباته عندما ترك شأن حزب نداء تونس الذي أسسه في 2012 ومنحه ورقة العبور إلى رئاسة البلاد في انتخابات 2014 لنجله ومديره التنفيذي الذي يظل المسؤول الأول على تفكك الحزب وتشتته وتراجع عدد نوابه في مجلس الشعب، فان لرئيس الحكومة يوسف الشاهد أيضا أخطاءه ونصيبه من المسؤولية السياسية والأخلاقية ولا نقول القانونية.. لن نتوقف عند مدى دستورية قرار الشاهد بإعلان التحوير الوزاري وهو الذي أعلن «أنه تصرف وفق صلاحياته الدستورية» وهو أيضا ما أقره أيضا خبراء القانون الدستوري في البلاد. ولا عند أهداف رئيس الحكومة المعلنة والخفية.. وهو ما ستكون الأيام القليلة القادمة وحدها كفيلة بتأكيدها أو نفيها... بل عند مسألة المعاملات وأخلاقيات السياسة.. قد يبدو من السذاجة بل من الغباء الحديث عن الأخلاق والسياسة اليوم ومع ذلك فقناعتنا أن السياسة أخلاق قبل كل شيء وبدون حد أدنى من الأخلاق يتحول الأمر إلى عبث بالأوطان وتصفية للحسابات. وهي مسألة لا تخلو من الأهمية عندما يتعلق الأمر برأسي السلطة التنفيذية رغم تغافل أغلب الملاحظين والسياسيين عنها في ردود الأفعال بشأن التحوير الوزاري... فمع التسليم سلفا بأن لرئيس الحكومة الحق المطلق دون قيد أو شرط في تحديد ما يراه مناسبا في التعديل الوزاري بعد تقييم أداء وزرائه، إلا ان الأكيد أن المسؤولية الأخلاقية كانت تفرض عليه استشارة رئيس الجمهورية على الأقل تجنبا لمزيد المهازل أمام الرأي العام في الداخل والخارج وتفاديا لافتعال الأزمات الوهمية ولمزيد تأجيج الاحتقان الحاصل.. كان يمكن للشاهد أن يضرب عصفورين بحجر واحد أمام الرأي العام ويعزز مصداقيته وصورته في المشهد... ولا ندري إن كان انساق إلى نصائح مستشاريه أو تصرف من منطلق المكابرة والرغبة في الانتقام من رئيس الدولة، وربما الدفع به إلى الانعزال فيما بقي من ولايته الرئاسية قبل موسم الانتخابات القادمة.. لا نخال أن يوسف الشاهد من فئة السياسيين الذين يعتبرون أن السياسة والأخلاق لا يلتقيان وأن امتهان السياسة مكر وخداع، وهو ما نأمل أن تكذبه الأحداث، فالسياسة فن وأخلاق ومعاملات أيضا.. صحيح أنه أكد في أكثر من مناسبة أنه براغماتي ومناور بارع عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن موقعه، والحقيقة أنه استفاد من تجربة سلفه الحبيب الصيد وتجنب في أكثر من مناسبة النهاية المهينة التي دفع إليها أمام الشعب وبتحالف الأحزاب الحاكمة، وفهم أن السياسة لا تخضع للعاطفة وأن المصالح والحسابات وحدها الكفيلة بتعزيز مواقعه وربما إرضاء طموحاته المستقبلية ما جعله يتخلى، بل ويتنكر للحزب الذي خرج منه ورشحه لمنصبه في رئاسة الحكومة.. ولكن الأكيد أن الشاهد سيظل مدينا لنداء تونس الذي منحه فرصة الظهور وكان يتعين عليه مواصلة المعركة من الداخل لإنقاذ الحزب والأخذ بزمام الأمور ودعوة المؤسسين المنسحبين إلى التخلي عن داء الزعامة والانتصار لخيارات الناخبين ولمصلحة البلاد.. نعم لقد كان من المهم أن يعدل رئيس الدولة موقفه من التحوير ويؤكد أن موقفه لن يدفعه بأي حال من الأحوال إلى الخروج عن احترام الدولة أو منع التعديل.. وهو ما قد يعني استعادة البوصلة المفقودة ومراجعة الشاهد لمواقفه.. فتونس قبل الجميع وفوق الجميع.