السياسة لا تعرف المستحيل ذلك هو الدرس الأول الذي يتعين على كل من امتهن السياسة أن يستوعبه، وهذا ما يتعين أيضا توقعه خلال الساعات القليلة الماضية قبل دخول البلاد حالة الشلل التام مع إعلان الأمين العام للمنظمة الشغيلة انتهاء المفاوضات مع رئاسة الحكومة بما يعني إقرار الإضراب العام في البلاد في الغد بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات على المشهد الاقتصادي والسياسي وحالة الاحتقان الحاصل في البلاد الذي ينذر بانفجار وشيك في حال استمرت القطيعة وفشلت لعبة الكواليس في تغيير المواقف أو ربما فتح أفق جديد للحوار بما يمكن أن يجنب البلاد أزمات إضافية هي بالتأكيد في غنى عنها .. حكومة يوسف الشاهد الثالثة ومعركة كسر العظام مع الاتحاد ليست بالتأكيد المعركة الوحيدة التي تتأهب لها البلاد ولكنها معركة لا مناص من أنها ستقوض بقية من تماسك اجتماعي في حال تعمق الأزمة التي فشلت الأطراف المعنية على الأقل حتى هذه المرحلة في إخمادها.. ولعل يوسف الشاهد لم يسقط من ذاكرته أن الدعم الأهم الذي حظي به بعد تعيينه خلفا للحبيب الصيد جاء من اكبر منظمتين في البلاد وهما المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف بما منح حكومته أفضل حزام سياسي في حينها قبل أن ينفرط العقد ويفقد الشاهد هذا الدعم ويستعيذ عن المنظمين بدعم وتأييد المنظمات الدولية وبينها صندوق النقد الدولي الذي سيفرض على الشاهد شروطه ويجعل حكومته رهينة تتقاذفها منظمات الداخل ومؤسسات الخارج... وربما تجاهل الشاهد في خضم معركة البقاء التي ستحرره من التزامات السياسية والأخلاقية التي تربطه بحزب نداء تونس ليقع في "قبضة" النهضة أن لا شيء يوازي كسب ثقة الرأي العام.. وفي انتظار ما يمكن ان تحمله الساعات القادمة لتجنيب البلاد تداعيات الشلل الذي بدأت تلوح مؤشراته يبقى الأكيد أن المشهد الراهن في البلاد وبعد نحو أسبوع على منح حكومة الشاهد 3 المعدلة ثقة النواب يحتاج لاستعادة البوصلة المفقودة أمام التحولات المتسارعة وتلاشي بقية من توازن، أو هذا على الأقل ما يبدو، فرضته الخارطة السياسية لانتخابات 2014 التي لم يبق من النتائج التي أفرزتها غير حزب حركة النهضة فيما تبخرت بقية النتائج وتجزأت وفق حسابات سياسية لم يشارك الناخب التونسي فيها .. والحقيقة أيضا أنه لا يمكن التوقف عند أزمة الحكومة والاتحاد بمعزل عن التحوير الوزاري الأخير والأزمة السياسية في البلاد ولا أيضا عن التصريحات المهينة لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي خلال الاجتماع السنوي الرابع للكتلة البرلمانية لحزبه عن التعديل الوزاري واعتباره بكثير من الغرور أن "الحكومة رفعت فيتو ضد بعض الوزراء الفاسدين في الحكومة وتم استبدالهم بوزراء صالحين" الأمر الذي أثار ما أثاره من جدل ما دفع ثلاثة من الوزراء المقالين يعلنون مقاضاة زعيم الحركة على اتهاماته لهم بالفساد ... صحيح أن السيد راشد الغنوشي اعتذر عما بدر منه في بيان صدر عن حركة النهضة بالأمس معتبرا أنه أسيء فهمه وهذا موقف يحسب له.. ولكن وبعيدا عن محاكمة النوايا فان الأكيد أن في تصريحاته التي تابعها الرأي العام ما لا يساعد في تجاوز أزمة الثقة المستعصية ويعزز القناعة بأن حركة النهضة تتجه للتفرد بالمشهد بعد أن أوشكت على إحكام قبضتها على مؤسسات البلاد وأزاحت مختلف خصومها بما في ذلك حلفاءها السابقين وأضعفت موقفهم.. طبعا لا مجال لتبرئة بقية مكونات المشهد السياسي من المسؤولية إزاء هذه النتيجة لا سيما حلف نداء تونس الذي يترك الساحة شبه فارغة بعد ما أصابه من تفكك وانهيار .. والأرجح أنه لا مجال لملء الفراغ الحاصل بدون استعادة الوعي المفقود الذي أصاب مختلف الأحزاب الديموقراطية الحداثية التي جمعتها الدكتاتورية وفرقتها الديموقراطية.. والأكيد أن المرحلة القادمة تقتضي أن يكون الاتحاد الذي كان له دوره التاريخي في معارك سياسية ونقابية مصيرية على مدى عقود طويلة فوق كل الحسابات وأن يظل أكبر من كل محاولات جرفه إلى تلك الحروب التي تحمل في باطنها بذور التفكيك والانقسام والتشكيك في الدور الوطني للاتحاد الذي يتعين أن يظل الحصن الذي يجتمع حوله كل التونسيين عندما تكون الخلافات السياسية في أوجها وان يظل العين الحارسة التي تمنح تونس المناعة أمام كل محاولات استهداف النمط الاجتماعي أو استباحة تونسية وهوية هذا البلد الذي ظل عصيا حتى الآن على كل محاولات اختراقه .. اليوم وقبل أقل من عام على انتخابات تشريعية ورئاسية حاسمة لا يبدو أن الأطراف المعنية النقابية والسياسية مستعدة لقراءة المشهد قراءة واقعية بحجم ما تفرضه التحديات الراهنة والمستقبلية.. نقول هذا الكلام ونحن ندرك أن الاتحاد بدأ العد التنازلي لإطلاق الإضراب العام وأن حكومة يوسف الشاهد قد تعتبر أن أي تراجع من ناحيتها سيكون بمثابة الانتحار السياسي.. ملامح الفيتو الذي فرض على التعديل الوزاري اتضحت ويبدو أنه سيتعين على يوسف الشاهد إما الاعتراف بأنه وزير أول على عكس ما كان صرح به، أو السعي بدلا من ذلك إلى استعادة البوصلة المفقودة في أقرب الآجال الممكنة قبل أن ينال منه فيتو الشيخ...