سبق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن أكد أنه لا يوجد هناك ما يلزم حكومته بالتدخل في جريمة خاشقجي.. فلا القتيل أمريكي ولا الأرض التي ارتُكِبت عليها أمريكية... على مدى نحو شهرين وبعد تأكيد جريمة اغتيال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في اسطنبول ظلت مواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتأرجح بين التأكيد على ضرورة معاقبة الجناة في حال ثبوت تورط السعودية وبين التشكيك في إمكانية تورط العاهل السعودي محمد بن سلمان.. وفي كل مرة كان الرئيس ترامب يتراجع خطوة عن أول تصريح له بشأن الجريمة التي تحولت إلى قضية رأي عام بالنظر إلى ما رافق تفاصيلها من بشاعة تجاوزت مختلف قصص وأفلام الرعب... وقد كان ترامب يخفف في كل مرة الضغوطات عن الحليف السعودي ويقدم المزيد من أسباب البراءة لحلفائه في المملكة كلما اتجهت أصابع الاتهام لولي العهد في جريمة خاشقجي.. وبعد اتصاله الهاتفي بالعاهل السعودي الملك سلمان وفي أعقاب الزيارة التي قام بها وزير خارجيته بومبي إلى الرياض عرفت تصريحات ترامب تراجعا في حدتها حيث اعتبر أن القتلة مارقون.. وفي وقت لاحق ذهب ترامب إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن القضية أخذت أكثر من حجمها وأعرب عن استغرابه من الاهتمام الزائد بالجريمة واعتبر أنه لا يوجد ما يلزم الحكومة الأمريكية بالتدخل، "فلا القتيل أمريكي، ولا الأرض التي ارتُكِبت عليها أمريكية وهي بالتالي لا تستحق كل الضجيج الإعلامي، فضلاً عن أنه غير مقتنع بالاتهامات، وأن السعودية دولة مهمة للولايات المتحد".. وسيكون التحول الأبرز في مواقف ترامب بعد اعتراف المدعي العام السعودي بملابسات الجريمة حيث اعتبر الرئيس الأمريكي أن كل ما حدث أن الأمور لم تسر كما أراد لها السعوديون وانه بكل بساطة "لم يسر شيء مما فعلوه على النحو الصحيح، ببساطة لم يتم الحديث عن الأمر بالطريقة المناسبة وأنهم لم يبلوا حسنا بالتنفيذ ولم يبلوا حسنا بالحديث عن الأمر ولا بالتستر عليه ليخلص ترامب إلى أن "العالم الشرير" مسؤول عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.. وهو ما فتح المجال على أكثر من قراءة لتصريحات ترامب وفيها إقرار بأن المشكلة ليست في الجريمة ولكن في طريقة الأداء وعدم القدرة على التستر عليها وبالتالي تجنب الفضيحة التي ستتسبب في إحراج ترامب أمام الرأي العام وأمام المؤسسات والهيئات الحقوقية المعنية بالعدالة وحقوق الإنسان فحسب.. ولم يتردد ترامب في مواجهة السلطات التركية واتهامها بالابتزاز والمساومة في قضية خاشقجي لتسلم معارض تركي في واشنطن وهو الأسلوب ذاته الذي سيستعمله ترامب ضد خصومه من النواب الديموقراطيين وحتى من أنصاره الجمهوريين الذين انتقدوا مواقفه من قضية خاشقجي مرددا أن القضية أخذت اكبر من حجمها.. وأن مقتل شخص واحد لا يعني شيئا أمام انتهاكات دول أخرى في حق مواطنيها.. وسيواصل ترامب تبرير مواقفه وتقديم جرعة إضافية في كل مرة بشأن جريمة اغتيال خاشقجي وعدم توفر الأدلة القطعية التي تدين ولي العهد مباشرة.. وسيأتي بيان الثلاثاء ليؤكد صراحة لمن كانوا يتوقعون موقفا مختلفا من الرئيس الأمريكي أن الأمر غير ممكن. وسيقدم ترامب بالتفصيل كل المبررات لموقفه وهي مبررات لا تستند إلى موقف قانوني ولكنها تستند إلى موقف شخصي وعقلية لا حياد عنها وهي عقلية المصلحة ولا شيء غيرها بمعنى أن المرحلة تقتضي اليوم أن يظل ولي العهد فوق كل الشبهات وان يكون في مرتبة الشريك الذي لا يقبل التفريط. وسيعتمد ترامب في ذلك على قناعة أنه لا احد بما في ذلك المخابرات الأمريكية الأقوى في العالم تمتلك وثيقة إدانة تؤكد تورط ولي العهد وهي مسالة يدرك ترامب جيدا أنها غير ممكنة وأن كل ما يقدمه معارضوه استنتاجات.. وبالتالي سيكون بيان الثلاثاء الذي صدر تحت عنوان "أمريكا أولا" بأنه لن يتخلى عن المملكة واستثماراتها بسبب خاشقجي الرد النهائي قبل اللقاء المحتمل مع ولي العهد السعودي في الأرجنتين على هامش مجموعة العشرين. وربما يكون بن سلمان على موعد آخر مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حسب تصريحات وزير خارجيته... ربما، وربما.. كلمات تختزل موقف الرئيس ترامب في التعامل مع جريمة خاشقجي منذ البداية. وسيكون بالتالي من الخطإ بل من الغباء التخلي عن صفقات الملايين مع هذا البلد لفائدة روسيا والصين.. إلا أن الكلمة المفتاح في تعاطي ترامب مع قضية خاشقجي والتي ستلجم السنة منتقديه من الجمهوريين والديموقراطيين الذين يتهمونه بالخيانة للقيم والمبادئ الأمريكية باعتبار انه بدون السعودية ستكون إسرائيل في ورطة وستفقد واشنطن سندا مهما في مواجهة إيران.. لسنا نبالغ أن ما يحرك ترامب في قضية خاشقجي لا يختلف في شيء عما يحرك أردوغان الذي يسعى لتحقيق أكبر ما يمكن من الأهداف والمصالح جلب معارضيه في واشنطن قبل طي صفحة خاشقجي الذي يظل في حسابات أنقرةوواشنطن مجرد حادث عابر وعنوانا من عناوين الصفقات المستقبلية.. وسيظل موضوعا للابتزاز طالما تطلبت المصلحة ذلك وطالما تطلب الأمر بقاء ولي العهد بعيدا عن الشبهات والاتهامات.. كما أنه ليس سرا بالمرة أن ولي العهد السعودي المقرب من صهر ترامب غاريد كوشنير يظل الورقة التي يعول عليها ناتنياهو لإقامة الحلف العربي للناتو والمضي قدما في تنفيذ إستراتيجية تل أبيب للفوز بصفقة القرن التي ابتدعها ترامب.. بمعنى أنه طالما استمرت الحاجة لبقائه سيستمر إلى أن يأتي ما يخالف ذلك ... والأكيد أن موضوع الإحراج الوحيد بالنسبة لترامب وللغرب مرتبط بالمؤسسات الحقوقية وبالشعوب المعنية بالحقوق والحريات وعدا ذلك فقد سبق لترامب الاعتراف بان قضية خاشقجي لا تستحق كل هذا الاهتمام بما يعني أن القيم والثوابت والمبادئ أصل تجاري قابل للتفاوض في كل حين.. وفي انتظار أن تتضح الرؤية مع ما ستحمله قمة مجموعة العشرين من مصافحات ولقاءات وصفقات، فقد يكون من المهم للدول العربية التي يعتزم ولي العهد محمد سلمان الذي راهن عليه الغرب خلال قمة الرياض ليكون "صانع تغيير المملكة " وبينها الجزائر وموريتانيا وتونس أن تتقن بدورها فنون اللعبة وأن لا تعجل برمي الأمير مع مياه الحمام، وهو ما يفترض على الديبلوماسية التونسية أن تتهيأ له فتونس كبلد ديموقراطي ولا أحد يمكن أن ينكر ذلك لا يمكنها أن تمنع الاحتجاجات والبيانات الرافضة لهذه الزيارة فهذا جزء من مناخ قد لا يكون مقبولا في غيرها من الدول العربية ولكنه قائم في تونس التي تستعد لاحتضان القمة العربية في مارس القادم من حقها الدفاع عن مصالحها والسعي بدورها لجلب الاستثمارات والمشاريع التي تحتاجها وليس التي تفرض عليها وأن تكون سيد المبادرة في كل أنواع الشراكة المستقبلية ولن يكون في هذا منة من أي طرف ولا تراجع عن ثوابت السياسة الخارجية التونسية التي لا تقبل المساومات والابتزازات... نعم من حق المجتمع المدني أن يعبر عن رأيه كما شاء في زيارة ولي العهد إلى بلادنا ومن حق النقابات والمؤسسات الحقوقية أن تندد وتستنكر وتمارس حقها الذي تكفله الديموقراطية الناشئة ومن حق أحزاب المعارضة أن تدلي بدلوها تماما كما انه من حق صناع القرار إتقان فنون الديبلوماسية وعدم التنازل في شيء عن مصالح البلاد والعباد...