لعلّ برهان بسيّس لم يكن يُدرك او أدرك متأخّرا، حينما صرّح منذ أشهر ليست ببعيدة، أن البلاد تحتاج الى «حاكم مثل الحجّاج بن يوسف الثقفي يطبّق القانون بحدّ السيف»، أنه وقتها قد يكون من»بين الرؤوس التي أينعت وحان قطافها»، وفق عقيدة البطش عند الحجّاج وليس وفق أمنيته في أن يُبعث في البلاد «حجّاجا» قال عنه ذات حوار أنه يريده «ديمقراطيا» وأن»الحجاج بن يوسف الذي حكم العراق ساهم في استقراره من خلال استعماله حد السيف، وإن البلاد بحاجة إلى تطبيق القانون خاصة وأن وضع تونس يشبه كثيرا وضع العراق قبل حكم الحجاج».. مستلهما من أكثر صفحات التاريخ العربي، سوادا، أمنيته، أين كان الحجّاج لا يكتفي حتى يرى «الدم يترقرق بين العمائم واللحي» شبّه برهان بسيّس، تونس اليوم ب»العراق المتمرّد» زمن عبد الملك بن مروان الذي أرسل أحد أشدّ قادته بأسا وبطشا ليعيد أهل العراق لبيت الطاعة.. ولم تمهل الأحداث برهان بسيّس الاّ أشهر قليلة حتى كان ذلك المساء، يوم الثاني من أكتوبر الماضي عندما قضت محكمة الاستئناف بسجن المستشار السياسي لحزب نداء تونس، برهان بسيّس لمدّة سنتين مع النفاذ العاجل، وذلك على خلفية قضية «صوتيتال» وبتهمة «استغلال موظّف عمومي لصفته لتحقيق فائدة لا وجه لها لنفسه، والاضرار بالإدارة» على معنى الفصل 96 من مجلة الاجراءات الجزائية، التي تعهّدت بها دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف منذ ماي 2013 للنظر في شكاية رفعتها شركة صوتيتال الى النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بأريانة مفادها أنه تم الحاق برهان بسيس»كمستشار بالشركة وهو استاذ تعليم ثانوي دون اتباع الإجراءات القانونية المعمول بها ودون أن ينجز الأعمال الموكولة له» لتتحوّل «المكرُمة» التي حصل عليها برهان بسيّس من نظام بن علي لقاء تميّزّه في تبييض وجه النظام وتلميع صورته وشراسته في الدفاع عن خياراته الجائرة، الى «كابوس» يُلاحقه منذ خمس سنوات وقاده الى السجن أكثر من مرّة. قد يكون برهان بسيّس وهو يُقاد في وقت متأخّر من ذلك المساء الى السجن، اكتشف، أن هناك «حجّاج ما» تربّص به و»طبّق عليه القانون» ليس بالمنطق الديمقراطي الذي أراده ولكن بمنطق «حدّ السيف» كدأب كل الطغاة..! ولعّله تذكّر حينها رفاق مسيرته المثيرة للجدل وتذكّر البعض من»اخوته» في الحزب الذي نخرته العداوات الداخلية وفتكت به الطموحات المنفلتة التي حشرته بين»التيارات الهوائية» عاصفة تأتي من قصر قرطاج ومن قصر القصبة ومن مقرّ الحزب بالبحيرة، ولعلّه قال فيهم قولة الحجّاح في أهل العراق بينه وبين نفسه «يا أهل الشقاق والنفاق..» بعد أن تخلّى عليه الجميع وتركوه يُصارع ماضيه بكل «آثامه» وبكل «تُهمه». «أطلق النار على نفسه...» ولكن برهان بسيّس الذي اعتاد دائما أن يتسرّب من بين»المفارقات» وجد نفسه بعد شهرين من سجنه متمتعا بالعفو الخاصّ ، يوم 10 ديسمبر، الموافق للذكرى ال70 للإعلان العالمي لحقوق الانسان، بقرار من رئيس الجمهورية الذي اختار في ذات الاحتفالية أن يوسّم المناضلين خميّس الشماري ومختار الطريفي ويعفو على برهان بسيّس في لحظة «سُريالية» تدفع للذهول.. فقبل سنوات قليلة وفي زمن بن علي، كان مستحيلا أن يجتمع ثلاثتهم، لأن كل منهم كان في ضفة مختلفة، فخميس الشماري الوجه اليساري والمعارض الديمقراطي والناشط السياسي كرّس جلّ حياته للدفاع عن القضايا الحقوقية منذ الستينات، فلم يتخلف يوما عن محطّة من محطات حركة حقوق الانسان التي قارعت دكتاتورية بورقيبة واستبداد بن علي ب»وجه مكشوف» وبجرأة استثنائية، وبدوره فعل الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، مختار الطريفي الذي كان من أشدّ المنتقدين لنظام بن علي وللانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي حدثت في عهده.. وعلى خطّ المواجهة معهما ومن ضفّة النظام والسلطة، يقوم برهان بسيّس الخطيب المفوّه بدور»العرّاب» في منظومة الفساد والاستبداد التي حوّل من خلالها زين العابدين بن علّي البلاد الى»مزرعة خاصّة» يتصرّف فيها بكل همجية ووحشية الحاكم الطاغية الذي كان على استعداد لتصفية كل من يختلف معه سياسيا أو فكريا والتنكيل بالمعارضين لسياساته، من وسط الخراب السياسي يرتفع صوت برهان بسيّس ليجمّل الحقائق المرعبة ويطمس كل أدلّة الادانة، تساعده في ذلك قدرة بلاغية استثنائية والماما بمختلف المعارف والمرجعيات الفكرية والأيديولوجية، وفي السنوات الأخيرة تحوّل برهان بسيّس الى أكثر الرجال اخلاصا للنظام وأكثرهم قدرة على تجميله وتلميع صورته مهما كانت الحقائق مشوّهة، وكذلك تحوّل الى أكثر رجال «البلاط الرئاسي» شهرة خاصّة في وسائل الاعلام الأجنبية التي ما فتئت تهاجم بن علي ونظامه البوليسي.. في ما يشبه تحوّلا دراميا في حياة الرجل الذي تحوّل من ذلك الشاب اليساري المتحمّس لكل أفكار وأطروحات العدالة الاجتماعية، أواخر الثمانينات الى»صديق مخلص» للسلطة، بعد أن نجح النظام في بداياته في استقطاب وجوه يسارية طلابية معروفة في خطّة ممنهجة لتدجين الجامعة وتحجيم اندفاع الشباب المعارض له. وكانت لحظة الثورة وسقوط نظام بن عليّ من أقسى اللحظات التي مرّ بها برهان بسيّس التي علقت به كل»آثام النظام» في فورة الانتشاء بالثورة وهو الذي أبى وأصرّ على اخلاصه لبن عليّ الى ساعات قبل»السقوط المدوّي».. اختفى لأشهر وعاد ليطلّ في حوار تلفزي، معلنا نهايته قائلا»مرحلة برهان بسيّس انتهت.. ولو رآني أحد في يوم ما في الاعلام أو السياسية.. فليطلق عليّ النار»! ولكن توبته السياسية لم تكن توبة «نصوحة» ففي سنة 2014 عاد برهان بسيس من جديد للمشهد الاعلامي من خلال قناة نسمة كمقدم لبرنامج ناس نسمة وهو برنامج يومي يهتم بالمستجدات السياسية قبل أن يستقيل منها في أفريل 2016 ليلتحق في شهر سبتمبر من نفس السنة بقناة التاسعة، قبل أن يعلن حزب نداء تونس في 15 مارس 2017 عن تعيين برهان بسيس مكلفا بالشؤون السياسية للحزب في ذروة الصراعات «البركانية» المتفجّرة داخله، وبداية أخطر صراعات مرحلة ما بعد الانتخابات وهو صراع المدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي ورئيس الحكومة والقيادي في حزب النداء يوسف الشاهد، صراع بدأ «باردا» وتحوّل الى كرة من نار جرّفت في طريقها الجميع.. بما في ذلك برهان بسيّس. الرقص مع الذئاب اصطف برهان بسيّس دون شرط الى جانب حافظ قائد السبسي بل هناك من يزعم أنه كان لسان وعقل المدير التنفيذي للحزب، وهاجم في الأشهر الأخيرة بشراسة حكومة الشاهد بل دعا رئيس الحكومته ومن وصفهم بجماعته قبل أيام من ايقافه الى اطلاق «سراح الجهاز التنفيذي للدولة» الذي أصبح كما قال في تدوينة له «مختطفا كرهينة لفائدة الطموح السياسي لرئيس الحكومة وحسابات بعض المحيطين به» وجد نفسه يُحاسب ويدفع فاتورة «آثام الماضي» وكأن تلك الأيام ستلاحقه ك»لعنة الفراعنة»، بسيّس الذي نصح خصومه ذات يوم بالكف عن»من ممارسة العادة السريّة السياسيّة» وجد نفسه مجبرا على «معاشرة» السلطة مرّة اخرى، لكن هذه السلطة عندما انقسمت بين قرطاج والقصبة، تاه بين رغبات الطرف الأخر، ووجد نفسه في مواجهة مأزق «مع من يصطّف؟» وخانته خبرة سنوات من الاصطفاف لأن المرحلة تتطلّب أكثر من القدرة على الكلام المنمّق وعلى الفصاحة والبلاغة وشراسة المحاججة.. انها تتطلّب قدرة استثنائية في «الرقص مع الذئاب» والى الآن لم يثبت برهان بسيّس أنّه «راقص جيّد»!