في مشهد اختزل تناقضات المسار الذي تسلكه تونس منذ 8 سنوات، وقفت أول أمس سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة داخل الفضاء الذي احتضن الأعمال الختامية للهيئة لتعلن بكل اعتزاز وثقة في النفس عن رضاها ورضى الهيئة عمّا أنجزته من أعمال في تفكيك منظومة الفساد والاستبداد –رغم العراقبل- ووضع جملة من الحقائق أمام الشعب التونسي لضمان عدم تكرار الانتهاكات ولجبر الضرر وطي صفحة الماضي. في المقابل اعتصمت عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري مع مجموعة من أنصارها أمام الفضاء ذاته للأشغال الختامية لهيئة الحقيقة والكرامة لتؤكد رفضها لكل مخرجات هيئة بن سدرين مشككة في شرعيتها منذ إنشائها ومتهمة إياها بتزييف الحقائق وخدمة أجندات حزبية على حساب مصالح الشعب التونسي وأموال المجموعة الوطنية. وتكمن رمزية المشهد في تعبيره عن الثنائية المتناقضة التي حكمت تونس ما بعد 14 جانفي وساهمت في تحديد ملامح مسار 8 سنوات بأكملها. والحديث عن هيئة الحقيقة والكرامة وتقييم أعمالها والمسار الذي سلكته لن يخرج دون شك عن دائرة تقييم مآلات ثورة الحقيقة والكرامة وحصيلتها، والبلاد تستعد لإحياء ذكرى شرارتها الأولى الموافقة ليوم17 ديسمبر. والمساران مترابطان في دلالتهما ورمزيتهما. لقد حُكمت تونس على امتداد السنوات الماضية من عمر الانتقال الديمقراطي، إما علنا أو من وراء الستار على قاعدة تقاطع حد التصارع أحيانا بين رؤيتين: أولى تؤمن بقيام ثورة في تونس من أجل الحرية والكرامة أزاحت دكتاتورية ومرت بموجبها البلاد إلى مرحلة انتقال ديمقراطي كلبنة أساسية في ارساء ديمقراطية حقيقية لا بديل ولا خيار دونها رغم المصاعب والمطبات وثقل الفاتورة الإقتصادية والإجتماعية وهو ثمن وضريبة طبيعية مرت بها التجارب المشابهة التي عاشت الانتقال الديمقراطي. وثانية لم تعترف يوما بهذا المسار برمته وما فتئت تشكك في الخلفيات والأجندات والتواطؤ داخليا وخارجيا على تونس واستقرارها، حيث انطلقت الأصوات خافتة في البداية مع أوج النفس الثوري لكن سرعان ما ارتفعت الحناجر عاليا للكفر بالثورة ورموزها والتعبير صراحة عن الحنين إلى الماضي ورجالاته، وحجتهم القوية في ذلك بعض الأخطاء في الخيارات ابان السنوات الأولى من الثورة، وكذلك ما تعيشه البلاد من أزمات متتالية، والفشل في ترجمة شعارات الثورة على أرض الواقع وبداية تحسس المواطن لثمار الانتقال الديمقراطي اقتصاديا واجتماعيا. فشل النخبة ولا نجانب الصواب إذا ما أقرينا أنه من العسير الحسم اليوم في ترجيح الكفة بين الرؤيتين فحتى أكثر الناس إيمانا بالديمقراطية والمتشبثين بالدفاع عنها كخيار لهذا البلد العزيز أصبحوا مترديين في الصدح بقناعاتهم وهم يرون حججهم تضعف يوميا أمام مد جارف من الأزمات والسير إلى الوراء بسرعة الضوء في أكثر من قطاع ومجال. وأضحت صحة المواطن وقوته مهددة وأمنه غير مضمون بتواصل خطر الإرهاب الذي يطل براسه في كل مرة ليزيد الوضع لبسا وحيرة بشأن السيناريهوات والمخططات المعدة لاستهداف استقرار البلاد وادخالها في مربع الفوضى والإقتتال لا قدر الله. ولا أحد ينكر أن الياس دب في النفوس بما فيها الأكثر تفاؤلا وذلك ما تؤكده يوميا نتائج سبر الآراء حول نسب التشاؤم والخوف من المستقبل لدى التونسيين وهم فقدوا الامل أو يكادون من رؤية ضوء نهاية النفق. في المقابل يبدو الحسم والإجماع الوحيد الذي لا جدال فيه ولا غبار عليه هو تأكد فشل النخبة ما بعد 14 جانفي في إدارة البلاد والأهم إدارة خلافاتها واختلافاتها وعلها تتحمل النصيب الأوفر في تعثر المسار ونكساته المتعددة والتى باتت اليوم مفتوحة على كل الإحتمالات بما فيها العودة إلى المربع الأول أو إلى مصير أكثر دكتاتورية أو رعبا. لم تنجح النخبة التى حكمت وأدارت شؤون البلاد من مواقعها المختلفة في استيعاب اللحظة الثورية وفي أن تكون البديل الجيد كما عجزت عن تقديم الحلول والتصورات لمشاغل التونسيين بل انصرفت إلى مراكمة الأخطاء في خيارات البداية عبر سلك الطريق الأصعب والأعقد بما في ذلك خيار المجلس التأسيسي وكل ذلك المسار الذي يتعرض إلى النقد ويحمله جزء كبير مسؤولية إضاعة الكثير من الوقت والجهد وفتح الباب على مصرعيه للصراعات السياسية والحزبية الضيقة على حساب مصلحة البلاد واستحقاقات الشعب الحقيقية التى تجسدت كأفضل ما يكون في شعارات الإحتجاجات الأولى بداية من 17 ديسمبر وصولا إلى 14 جانفي وإمتدت إلى وقت قصير اثر ذلك عندما شهد الجميع لحمة وتضامنا وانضباط التونسيين في أرقى مظهر وما حملته من مضامين لكن سرعان ما تبخرت تلك الصورة الجميلة والحالمة للدخول في مرحلة مغايرة بعناوين وشعارات أخرى ولخدمة أجندات وأطماع حزبية وشخصية. لقد سيطر على امتداد سنوات الانتقال الديمقراطي منطق صراع المصالح الضيقة والنفوذ ودخلت البلاد في متاهات المعارك الإيديولوجية مرة ونصرة الثورة أو معاداتها مرة أخرى وفي أتون محاولات الزج بالبلاد في لعبة المحاور الإقليمية والإصطفاف المفضوح الذي لم ولن يكون يوما في خدمة مصلحة البلاد بل كان ذلك على حساب مزيد تقسيم التونسيين والتضحية بمطالبهم المشروعة في الكرامة والشغل والعيش الكريم. هكذا وقعت الثورة «ضحية» و«فريسة» تماما كما كانت العدالة الانتقالية ضحية خيارات خاطئة في التأسيس بدءا باختيار سهام بن سدرين لرئاسة هيئة الحقيقة والكرامة وما أثارته من جدل حول شخصها- بغثه وسمينه- لم يخدم المسار وأضر به وصولا إلى دخول حركة النهضة على خط نصرة بن سدرين اعتبره كثيرون وضعا لليد على المسار لتوجيهه وتصفية الخصوم السياسيين مرورا بالمخاوف الطبيعية للمتضررين من كشف الحقيقة، صورة اختزلها القيادي في التيار الديمقراطي محمد الحامدي قائلا أن المسار كان ضحية «خصوم الحقيقة والنهضة وبن سدرين».