كانت "الصباح نيوز" نشرت الأحد الماضي خبر استقالة رياض الشعيبي من حركة النهضة، وفق ما جاء في صفحته الخاصة على "الفايس بوك" وقد خصنا الشعيبي صباح اليوم الإربعاء بنصّ مكتوب اختار نشره عبر "الصباح نيوز" وفي ما يلي ما كتبه الشعيبي : لماذا استقيل ... اثارت استقالتي من حركة النهضة استغراب العديد من الملاحظين السياسيين والإعلاميين المتابعين للمشهد التونسي وذلك لثلاثة اسباب اولها ان الاستقالات من الاحزاب الاسلامية كانت نادرة الوقوع تاريخيا وكأن في هذه الاحزاب رابطة اقوى من كل اختلاف سياسي يمكن ان يشقها. ثانيا لان هذه الاستقالة جاءت من شخص تلبس بالتعبير الاعلامي عن المواقف السياسية الرسمية للحركة بما اوحى بقربه من مطبخ صنع القرار داخلها بل ومشاركته الفعالة فيه. ثالثا انه بعد مسيرة طويلة بلغت ثلاثين سنة من الانتماء للحركة لم تشبها اية شائبة لماذا هذه الاستقالة في هذا الوقت بالذات؟ وبالفعل لان استقالات الاسلاميين نادرة ندرة الخوارق الكونية، فانها عادة ما تكتنز داخلها ابعادا ومعان متعددة. ربما لم تهتم مراكز الدراسات الاستراتيجية الا بالجوانب البراغماتية في تفحصها للحركات الاسلامية لان هدفها تركز على سبل السيطرة على هذه الحركات وتوجيهها. في حين ان تجارب عقود من الحياة الداخلية لهذه الجماعات لا شك تبرز ابعاد اكثر تعقيدا في تركيبتها. فالروابط الحزبية والسياسية هي الاضعف من بين شبكة العلاقات وعوامل الوحدة داخلها. ففي كثير من الاحيان تتباين المواقف السياسية الى حد التناقض ولكن ذلك لا يعتبر مبررا كاف لانفراط عقدها وانقسام صفها. ربما يذهب البعض للثقافة التصديقية والايديولوجيا الداخلية للجماعة التي تلعب دورا رئيسيا في تماسكها، لكن الايديولوجيا ليست وحدها التي تلعب هذا الدور بل الارتباطات النفسية والاجتماعية ايضا تلعب دورها في هذا المضمار. فاغلب هذه الحركات قد مرت بمحن قاسية استطاعت ان تتجاوزها بتضامن داخلي متين وطّد العلاقات البينية داخلها وأنتج منظومة من القيم الخصوصية استنادا الى نصوص دينية تكافلية. هذا الحبل متعدد الاسلاك الذي يشد هذه الحركات بعضها الى بعض زادته المفاهيم التنظيمية الشمولية متانة وقوة. فاضحى الرابط جزء من التصورات الاعتقادية للجماعة. لكن من ينظر لهذه الروابط نظرة عقلانية لا يستطيع إلا ان يموضعها دون التغاضي عن تفهمها والقدرة على تفسيرها. ويبدو ان بعض الحركات الاسلامية يجب ان تضع نفسها تحت طائلة القراءات التاريخية والإنسانية حتى تستطيع ان تطور ثقافتها الداخلية بما يسمح بانفتاحها على واقعها بعيدا عن تصوراتها المعيارية التي تجعلها فوق سنن التاريخ ومنزهة عما يعتري كل الظواهر من قوانين النشأة والتطور والشيخوخة. وعندما تستعصي هذه الجماعات عن التطور والتجديد في وعيها وفي وسائل عملها وفي نخبتها لاشك ان نزيف استقالة كوادرها وقياداتها سيستمر. ثانيا لا يجب الاستغراب من استقالة بعض قيادات الاحزاب وكأن هذه القيادات هي المحدد لخيارات احزابها بمعزل عن التنوع في مواقع القرار وموازين القوى الداخلية للحزب. وعند نجاح اي ناشط سياسي في التعبير الوفي خطابا وسلوكا سياسيا عن خيارات حزبه فما ذلك الا تعبيرا عن عمق الثقافة السياسية وصرامة الانضباط الحزبي وهي من الشروط الاساسية لنجاح الادارة القيادية والتنظيمية للحزب. فمطلوب ممن يتصدر للتكلم باسم حزبه والتعبير عن مواقفه الالتزام بالسياسات العامة للحزب وممارسة مقادير كبيرة من التحفظ حيال ردود افعاله. فلم يكن ابدا كل الناطقين بمواقف احزابهم بالضرورة موافقين على هذه المواقف والا استحال الامر الى احد امرين: اما ان هؤلاء مستبدون يفرضون ارائهم على زملائهم في الحزب باستمرار اذ لا يعقل ان يكون نفس الشخص دائما متفقا مع رأي الاغلبية في الحزب. وإما ان يعبر عن موقف الحزب اذا ما اتفق مع رأيه الشخصي ويتمسك بهذا الراي الخاص المخالف لراي الحزب ليعلنه رغم مخالفته حزبه. وفي كلتا الحالتين لا يمكن ان يصلح هذا الشخص لقيادة جماعة او حزب. كذا الامر في هذه الحالة ما كان يمكنني ان اعبر عن مواقفي الشخصية وأنا الذي اخترت ان اترجم مواقف حزبي الذي انتميت اليه وساهمت في قيادته. اخيرا لماذا الاستقالة الان ؟ ربما يبقى هذا هو السؤال الاهم في هذا الموضوع. اولا الاستقالة لا تعني التفصي الكامل من المسؤولية عن الازمة السياسية الراهنة في تونس. فقد كنت احاول واجتهد مع كثيرين بالرأي وبالعمل لتجاوز التحديات الكبيرة التي تواجهها تجربة الانتقال الديمقراطي. واذا كانت بحسب تقديري هذه التجربة تواجه مخاطر حقيقية فلأن كل الطبقة السياسية تتحمل مسؤوليات متفاوتة في ذلك. ثانيا لا تعني الاستقالة ايضا الانقلاب على التجربة التاريخية التي عشتها على امتداد ثلاثة عقود في احضان حركة النهضة، فذلك التاريخ ارث مشترك ورصيد جماعي يمتلك فيه كثير من التونسيين اسهما ثمينة جدا ولا اعتقد ان عاقلا يفرط في ذاكرته ورصيده النضالي والاعتباري. ثالثا الاستقالة لا تعني قطع كل اسلاك الوصل في حبل العلاقة بأبناء مشروع النهضة، فإذا اختلفنا في الخيار السياسي لا شك ان مسيرة النضال الطويلة والمشتركة قد نسجت علاقات انسانية واجتماعية قادرة على الصمود امام مثل هذه الهزات. رابعا الاستقالة ليست نكوصا وانطواء على الذات وقنوطا تجاه الواقع الحالي انما هي تغيير تموقع ربما يراه صاحبه اكثر ملائمة وقدرة على التأثير في مجريات الاحداث السياسية في تونس خاصة بعد فشل الخيارات السياسية لحركة النهضة في ملء الفراغات الكثيرة في الساحة السياسية الحالية. خامسا هذه الاستقالة عبرت عن موقف متحرر شعاره ان الاوطان فوق الاحزاب وان الاحزاب جعلت لخدمة الاوطان فلا يجب ان تصبح الوسائل اهم من المبادئ. وبقدر ما في الاستقالات من استنزاف لطاقات الاحزاب بقدر ما فيها من رسائل ايجابية تبرهن على عمق الشعور الوطني داخل ابناء هذا الحزب. لقد كان اختلافنا عميقا واخطر الاختلافات تلك التي تتعلق بفلسفة العمل لا الاختلافات النظرية. لان الخلاف النظري يمكن معالجته من خلال الية الحوار الداخلي وقد كان هذا تقليدا راسخا داخل حركة النهضة. اما الاختلاف في الاعمال اي في السياسات وفي قدرة الحركة على تنزيل سياستها فيبقى هو الاخطر. لقد اصطبغ اداء الحركة والحكومة من وراءها بارتجالية غير مقبولة من حزب يتموقع حيث القاطرة في عملية الانتقال الديمقراطي وعلى الرغم من تنبيهنا باستمرار لخطورة الارتهان لليومي وعدم القدرة على تمثل مستقبلي لرؤى الحركة وبرامجها، وما يمكن ان يجره ذلك من تهديد ليس لمستقبل الحركة فقط ولكن ايضا لمجمل العملية السياسية. رغم هذه التنبيهات لم تتفطن الحركة الى ما تعيشه اليوم من انزياح عن الشعارات السياسية والاجتماعية التي اطلقتها ثورة الحرية والكرامة. وللامانة اقول ان اغلب الاحزاب السياسية الملتفة حول مائدة الحوار لتشكيل الحكومة الجديدة قد قبلت التنازل عن الثورة التونسية لصالح اجنداتها السياسية والايديولوجية. والا بماذا نفسر الصراع اليوم على افتكاك بقايا النظام السابق من القوى الراكدة في الواقع والمتهيكلة حديثا في احزاب سياسية. لن يكون للعدالة الانتقالية من معنى ولا للديمقراطية الاجتماعية التي حلمت بها قوى الثورة من حضور على مائدة حوار تقتسم فيه السلطة بعيدا عن ارادة الناخبين وبمشاركة رموز النظام السابق وزبانيته. ولكن ما غاب على اصحاب المائدة ان الانتقال الديمقراطي ليس بيتا شعريا يرتل في المناسبات الوطنية انما هو شروط موضوعية تتحقق في الواقع، والقفز على هذه الشروط والهرولة للانتخابات دون توفير مناخات نجاحها وضمانات الانتقال الحقيقي للديمقراطية المستقرة عبرها، دون ذلك لن تسجل الانتخابات القادمة، ان حصلت، الا انتكاسة للمسار الثوري ومن ثمة للانتقال الديمقراطي. كل المؤشرات الحالية تضعنا امام نفق الازمة السياسية الطويلة التي تبدأ بالعجز عن حسم موازين القوى بشكل نهائي لصالح الثورة وقواها الحية لتمر عبر اعادة دمج المنظومة القديمة للسلطة وصولا الى الاستغناء النهائي عن مطالب الثورة واهدافها. هذا الوضع الذي وصلته البلاد تم بالانزياح التدريجي وغياب الرؤية الواضحة والاستراتيجية لكيفية تحقيق مطالب الثورة. في كثير من المواقف ظهر ايضا ضعف الارادة السياسية لدى الحكومة خاصة، فقرارات حزبين على الاقل من ترويكا الحكم كانت واضحة في دعوة الحكومة لتصحيح مسارها وتوجيهه في اتجاه المطالب الاجتماعية للمواطنين بما يحقق التشغيل السريع والانطلاقة التنموية فضلا عن محاسبة الفاسدين. لكن بعد سنتين من حكم الترويكا تبدو الخيارات الاقتصادية اكثر ليبرالية ومستسلمة بالكامل للمديونية الخارجية في حين ان الزيادات الاعتباطية في الاجور لم يكن لها تاثير حقيقي على نمط عيش الشغالين بسبب التضخم الكبير وما ارتبط به من ارتفاع الاسعار ونزول سعر الدينار التونسي. ان استمرار المسار السياسي الحالي تحت غطاء الوفاقات المزيفة والهشة لن يقنع كثيرا الاطراف الدولية المؤثرة على المشهد التونسي. لذلك نراها تضع عينا على التسويات الداخلية التوافقية وعينها الاخرى تبحث عن بديل يستطيع ان يؤدي دوره بشكل مقنع في حماية الحدود الجنوبية للقارة العجوز من موجات الهجرة السرية التي ستزداد تدفقا كلما ازدادت الاوضاع سوء في الضفة الجنوبية. والذي يمكن ايضا ان يلعب دور الواقي من خطر الارهاب الذي بات يقترب اكثر من السواحل الشمالية للمتوسط. ان بروز تيار وطني في تونس في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخها يعد اكثر من ضرورة. تيار سياسيّ يستطيع ان يصوغ مطالب الثورة في استراتيجية سياسية قادرة على التموضع في الواقع وعلى ان تفرض نفسها كاجندة سياسية وطنية. هذه الاستراتيجية ترتكز على ثلاث قواعد: وحدة المشروع الوطني الذي ينبني على ثوابت الهوية الوطنية التونسية ويتلبس بسمتها الوطني الجامع باعتباره ارضية ومنطلقا لاية تصورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ثانيا التزام البعد الاجتماعي باعتباره محصلة الفعل الثوري من عدالة اجتماعية وتوزيع عادل للثروة وتشغيل وتنمية متوازنة بين الجهات وصياغة كل ذلك ضمن منوال تنموي وطني قابل للانجاز ووفق رؤية مستقبلية واضحة. ثالثا استكمال المسار الثوري وتحقيق الشروط الموضوعية للانتقال الديمقراطي لتأمين العملية الديمقراطية وضمان عدم العودة للاستبداد من جديد وان تكون المصالحة الوطنية الشاملة القائمة على كشف الحقيقة والاعتذار والنقد الذاتي ورد الاعتبار والمحاسبة والعفو الصادق اهم خطوات هذا الانتقال واهم شروط نجاحه. لم تستطع حركة النهضة ان تستجيب لمتطلبات المرحلة لأسباب يطول حصرها لذلك لم اجد بدّا إلا الاستقالة حفاظا على ما احمله من ودّ لقيادتها وقواعدها، ولم يكن الامر هينا فقد اخذ مني اكثر من سنة من التفكير والتأمل، وحرصا على الذاكرة الجميلة التي ادخرها لنفسي عن تجربتي في هذه الحركة اردته فراقا بمعروف وتنافس في الحق وعلى الثبات يوم ينفع الصادقين صدقهم.