إن امتلاك اللغة العربية هو شيء جميل جدا. ونقول ذلك ليس لأننا نتكلم باللسان العربي ولا لأن لغتنا الرسمية الأولى هي العربية فقط بل لأن لهذه اللغة حلاوة ولأنها لغة الشعر ولغة البلاغة وهي لغة حية معبرة وهي كي لا ننسى لغة القرآن. إنها لغة القرآن الذي يعتبر إذا ما تعاملنا معه كنص ناطق معجزة في حد ذاته. فهو نص جميل وبليغ ويمتاز بخاصية تتمثل في أنه كلما اعتقدنا أننا فهمنا ألغازه وفككنا شفراته، إلا وتبين أننا أمام نص متمنّع يحتفظ بكامل ألغازه ويدفعنا دفعا إلى التوغل أكثر في ثناياه وفي ذلك البحر الدافق من الكلمات والصور والمعاني. والقول بأن استعمال العربية تراجع في بلادنا قول صحيح. فاللغة العربية ليست في أفضل أحوالها بشهادة أهل الاختصاص والملاحظين والمهتمين وهي ليست على ما يرام سواء في المدرسة أو في الإدارات أو في الإعلام وقلما نظفر اليوم بمن يتقن هذه اللغة اتقانا شديدا ويبدع فيها، فاللغة هي إبداع متجدد وإلا فإنها تفقد بريقها وتموت رويدا رويدا. وحال العربية ليس أفضل في عديد البلدان العربية الأخرى التي أصبحت لا تنطق العربية بشكل جيد والعربية تعاني اليوم من غزو اللهجات المحلية ومن غزو اللغات الأجنبية على غرار الإنقليزية، لسان اللغة الرقمية الحديثة بامتياز، والفرنسية فيما يخصنا نحن في تونس، وفي عدد آخر من البلدان المغاربية من بينها الجزائر بالخصوص. وعلى الرغم من اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة للغة العربية كسادس لغة رسمية لها منذ سنة 2012 فإن اللغة العربية مازالت في منطقة الخطر بسبب غزو الألسنة الأجنبية وبسبب تأثر البلدان التي تستعملها ببلدان أجنبية من منطلق اقتداء «الغالب بالمغلوب» وهو ما يدعو إلى ضرورة تكثيف المبادرات للحث على استمالة الشباب إلى العربية ولن يكون ذلك إلا من خلال الأنشطة الثقافية وأساسا الترجمة منها وإليها والمسابقات الأدبية والفنية المكثفة.. فاللغة التي لا يتكلّمها أهلها أو يستغنون عنها بلغة أخرى وفق الباحث الطاهر لبيب هي لغة مآلها الاندثار. وقد سبق أن أكد لنا الطاهر لبيب في حديث معه هذا الأمر وهو يقول في هذا الباب: «إذا نظرنا إلى وضع اللغة العربية الفصحى نظرة ميدانية موضوعيّة فإن تراجعها، بل غيابها في فضاءات حيويّة، إضافةً إلى عدم الاكتراث بسلامتها، يؤشّر على توجّه نحو اندثارها». الاندثار وفق قوله يعني أنها لن تبقى، عمليًّا، لغة قوميّة أو وطنيّة، بل لغة فئة خاصة ومحدودة، هي في الجملة فئة مرتبطة بالمقدس. وفعلًا، هناك بلدان عربيّة وفق الطاهر لبيب لم يعد فيها وجود حقيقي للغة العربية خارج هذه الفئة وبعض المناسبات الرسميّة، منبها إلى أن اللغة العربية الفصحى هي، كغيرها من اللغات، ستندثر إذا تواصل مسارها الحالي، وأن التغنّي بها وتمجيدها لن ينقذها من ذلك. لكن وإن سلمنا بأن العربية مهددة وهذا أمر لا بد من أن يتحمل المعنيون بالأمر مسؤوليتهم فيه والعمل على حماية اللغة الأم مما يهددها من مخاطر قد تؤدي بها إلى التلاشي، لا يعطي الحق من منظورنا إلى أصحاب فكرة مناهضة فكرة تعلم لغات أجنبية. بل على العكس إن امتلاك لغات أجنبية هو أمر محبب ومفيد بما أنه يقي أصحابها من التحجر الفكري ويمكنهم من الانفتاح على الآخر وعلى ثقافته الأمر الذي قد يساعد على التخلص من الأفكار المسبقة. وما الترجمة في نهاية الأمر إلا محاولة للتعرف على الآخر من خلال ما ينتجه من فكر وإبداع ومن خلاله ما تنقله لنا الترجمة من معلومات حول نمط التفكير والعادات والتقاليد لديه. ونعتبر أن المعركة التي يحاول أن يشهرها البعض لأسباب تهمهم ضد اللغة الفرنسية في تونس مثلا هي معركة وهمية لسبب بسيط أن الأجيال السابقة التي كانت تتقن الفرنسية كانت تتقن أيضا العربية ومدرسة مثل مدرسة الصادقية بالعاصمة كانت تعتبر مثالا في توفير تعليم متين مزدوج اللغة. أما اليوم وبشهادة الخبراء فإننا نكاد نفقد اللغتين. فلا نحن (أو على الأقل أغلبيتنا) نحسن العربية ونبدع فيها وهي لغتنا الأم ولا نحن نتحكم جيدا في اللغة الفرنسية التي اعتبرها كاتب ياسين في يوم ما غنيمة حرب، والفرنسية من منظورنا هي أيضا لغة جميلة ولغة إبداع وفن بامتياز ولا يمكن لمن يمتلكها إلا أن يستفيد منها.. وبالتالي، وإن كنا نتفهم الغيرة على العربية، بل ونشارك أصحابها مخاوفهم وهواجسهم من أن يأتي يوم وتندثر لغتنا الأم، فإننا لا نتفق مع كل من ينظر نظرة عدائية إلى اللغة الفرنسية ويعتبرها إرثا استعماريا. وما نقوله عن الفرنسية يصح على الإنقليزية وعلى العديد من اللغات الأخرى لبلدان مؤثرة في العالم مثل الصين. فامتلاك لغات أجنبية لا يمكن إلا أن يكون ايجابيا لا سيما في ظروف بلداننا الحالية والتي جعلتنا بلدانا غير منتجة للعلوم والتكنولوجيا والمعارف في شتى الميادين. ولنا أن نشير وقد احتفل العالم أمس (18 ديسمبر) باليوم العالمي للغة العربية أنه إن كان علينا أن نخوض معركة من أجل العربية فينبغي أن تكون في مجال التعليم، على أن لا تكون المعركة على حساب الانفتاح على لغات أجنبية وأن يكون تعاملنا مع اللغة بدون مركبات نقص إزاء اللغات الأجنبية وبدون تعال أيضا، ذلك التعالي الذي عادة ما يجعل صاحبه محشورا في الزاوية. نعم، نحن في تونس بلد معتز بلغته العربية، لكننا لسنا أحادي اللغة على حبنا للعربية. وهذا لا يعيبنا في شيء.