يكفي التطلع إلى بعض ما حملته الساعات الاولى من العام الجديد لندرك ان ملامحها لن تكون محملة المفاجآت، بل الأرجح ان أحداثها ستكون مرتبطة بشكل أو بآخر بما شهدته السنة الماضية وحتى سابقاتها. ومع ان الارهاب سجل حضوره مفتتحا اليوم الاول من العام الجديد من خلال هجوم انتحاري بمدينة سبها الليبية دون ان يسفر عن ضحايا، وآخر في مدينة مانشستر من خلال عملية طعن، فإن الأرجح أن السنة الراهنة ستشهد انحسارا لتحركات وتهديدات هذا التنظيم الذي يتجه دوره الى نهايته سواء في سويا والعراق او كذلك في ليبيا. بل انه بات واضحا ان التنظيم أصبح مقيدا في أهدافه بعد ان تم تجفيف منابعه ماديا وبشريا، وأغلب العمليات الإرهابية المسجلة في الأسابيع الاخيرة وآخرها ما حدث في مصر قبل نهاية العام أصبحت أقرب الى المحاولات الانتقامية غير المحسوبة، منها الى أي شيء آخر حيث يبدو حاليا ان التنظيم يفقد قدراته، وأقصى ما يمكنه القيام به محاولة بث الرعب في النفوس ودفع الناس الى الاعتقاد بأنه مازال فيه بقية من نفس. نقول هذا الكلام ونحن ندرك ان خطر تلك الخلايا النائمة المتمكنة التي وجدت لها ملجأ في بعض المناطق لن تتردد في اقتناص الفرصة متى توفر لها الامر. وبالتالي يبقى من المهم ان تظل الأعين متوثبة تحسبا لكل الاختراقات او محاولات الاستثمار في اي حالة من الفراغ التي يمكن ان تحصل ليتمكن التنظيم من تسجيل حضوره بمواصلة سياسة امتصاص الدماء التي لا يجيد غيرها... البشير في مهب انتفاضة الخبز وفي كل الاحوال فإن المتوقع ان ينحسر خطر وتهديد الدواعش بالنظر الى نهاية دور هذا التنظيم في تحقيق عدد من الأهداف التي لا تخطئها عين مراقب بعد أن تحول قبل نحو أربع سنوات عندما ظهر في الموصل الى نصل مسموم يقسم الأوطان ويشرد الشعوب ويهدم مؤسسات الدولة وينشر الخراب والفوضى والجهل. ما يمكن ايضا التوقف عنده في الساعات الاولى من العام الجديد مرتبط الى حد كبير بتطورات الاحتجاجات في السودان والتي كانت انطلقت في الاسبوع الأخير من العام المنقضي 2018 لتظل قائمة مطلع العام الجديد، اذ لم تفلح سياسة العصا والجزرة التي يلوح بها الرئيس السوداني عمر البشير في تهدئة الشارع الذي مسه الضر بعد الترفيع في ثمن رغيف الخبز، ويبدو ان البشير أدرك ان الأزمة يمكن ان تؤول الى ما لا تحمد عقباه وربما تتحول الى فصل جديد من فصول «ربيع عربي» قد يخفت ليعود ويتأجج. ولعل ذلك ما عجل بخروجه في اليوم الاول من العام الجديد واعدا بالترفيع في الأجور ودعم السلع الاساسية، أما الوعد الأبرز للرئيس البشير الذي يحكم السودان منذ 1989 فهو تنظيم انتخابات حرة وشفافة بحلول 2020. وليس من الواضح ان كان البشير سيتخلى عن محاولات تحوير الدستور والترشح لولاية جديدة بدوره أم سيلتزم بالوعد الذي كان قطعه بالانسحاب من الحياة السياسية العام القادم.. مصير البشير مع تفاقم موسم الاحتجاجات قد لا يتضح قريبا وهو الذي لا يزال واقعا في إغراءات السلطة التي توفر له الحصانة التي يحتاجها في مواجهة ملاحقة الجنائية الدولية، ويبدو ان الضغوطات المتفاقمة التي يواجهها في الداخل والخارج هي ما جعله يدعو بالأمس في اول ايام العام الجديد الى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول المظاهرات تذكرنا بما حدث في تونس بعد ثورة 2011. ولكن الى اي مدى يمكن للبشير ان يمضي قدما في هذا الاتجاه، فتلك مسالة أخرى... فهو يمارس الشيء وضده وهو الى جانب هذه الدعوة للتقصي والتحقيق يصر على ان لديه خارطة طريق جاهزة لمعالجة الوضع في السودان وهي مسألة قابلة لكل القراءات بعد عودة غريمه المعارض الصادق المهدي حديثاً الى الخرطوم. وربما تبوح الساعات القادمة بما يمكن ان يخفى بشأن مصير خارطة الطريق التي يلوح بها وفاعليتها في اجتثاث الأزمة قبل استفحالها. ومن يدري، فقد يكون الرئيس السوداني الذي كان اول رئيس عربي يحل ضيفا على الرئيس السوري بشار الأسد في الساعات الاخيرة من نهاية العام المنقضي، حريصا على اعادة قراءة تطورات الأحداث في دول الربيع العربي منذ 2011 قراءة عميقة ومتأنية تجنبه ما آل اليه مسار قيادات وصلت الحكم في نفس الفترة التي انقلب فيها البشير على الحكم في السودان، وأن يغلب هذه المرة عقلية السياسي المحنك الذي لا يتعامل مع قضايا الوطن كتعامل الراعي مع القطيع.. ترامب والبحث عن المفاجآت اول ايام العام الجديد لا تتوقف عند هذا الحد، فقد ارتبطت بمرور 54 عاما على تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطينية «فتح» التي تقف في منعرج خطير، فلا هي قادرة على العودة للمقاومة المسلحة التي قامت عليها، ولا هي قادرة على استعادة حقوقها والدفاع عنها.. وهي كحركة ارتبطت بأكبر ملاحم القرن النضالية تبدو فاقدة للبوصلة بعد ان عصفت بها رياح الاخوة وعبثت بها حسابات الأعداء. «فتح» الواقعة بين مطرقة الاحتلال الذي يعبث بالجميع، وسندان الانقسام وما أحدثه من شروخ بين قطاع غزة والضفة الغربية، لم تعد تملك زمام المبادرة لتحديد أولوياتها وخياراتها او استعادة مواقعها امام سرطان الاحتلال المتمدد، الذي يوشك ان يبتلع ما بقي من الأرض. وقد جاءت صفقة القرن التي اطلقها الرئيس الامريكي دونالد ترامب بعد قراره الارعن نقل السفارة الامريكية إلى القدسالمحتلة في استخفاف بكل القوانين الدولية، لتفاقم تعقيدات المشهد وتجعل «فتح» ومعها زعيمها الرئيس محمود عباس في وضع لا يحسدان عليه، بين خيبة أمل الشعب الفلسطيني وهشاشة وإفلاس الموقف العربي ودناءة ونفاق الموقف الدولي. والأرجح ان السنة القادمة ستجعل القضية الفلسطينية امام خيارات واستحقاقات ورهانات خطيرة لأجل العودة بالقضية الى اهتمامات الرأي العام الدولي في المحافل الإقليمية والدولية وستكون مسيرات العودة في غزة منطلقا - ربما - لمزيد التحركات الشعبية ضد ممارسات الاحتلال، وستكون القمة العربية في مارس القادم اول الاختبارات التي ستحدد البوصلة العربية الرسمية وتوكد نهائيا مسار القضية الفلسطينية في ميزان العدالة الدولية العرجاء وتفعيل خيارات كانت حتى الان مؤجلة، وقد لا يكون بإمكان احد من المسؤولين الرسميين كبح جماح الشارع الفلسطيني متى استشعر نهاية المطاف... «فتح» وبعد 25 عاما على اتفاق أوسلو تجد نفسها في موقع لا تحسد عليه، وهي ايضا وبعد 19 عاما على كامب ديفيد الثاني الذي جمع بين الرئيس عرفات وإيهود باراك خلال ولاية الرئيس كلينتون، تكاد تقف في موقف الشاهد الأخرس على مواعيد تاريخية فقدت روحها وهدفها بعد ان جردتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من كل أمل وجعلتها مجرد مواعيد في السجلات الرسمية للتأكيد على دهاء المسؤولين الإسرائيليين وقدرتهم على الاستفادة من كل الأحداث وفي كل الظروف بما يضاعف مكاسبهم على الارض ويزيد من ضعف وترهل وهشاشة الفلسطينيين. وبات واضحا اليوم والى جانب الممارسات الترهيبية على الارض ما يتحقق لسياسية الاحتلال الإسرائيلي من قدرة على الاستثمار في حالة الفوضى المدمرة التي تعيش على وقعها المنطقة وتحديدا سوريا لتسجل نقاطا غير مسبوقة وتكتسح مواقع غير متوقعة باقتلاعها ورقة التطبيع وتصوير الأنظمة والحكومات العربية التي كانت حتى الأمس القريب تتعهد بمقاومة التطبيع تتسابق الى كسب ود إسرائيل ومد جسور للتواصل معها ورفع راية التطبيع.. وفي كل الاحوال سيظل الرئيس الامريكي دونالد ترامب احد الفاعلين الأساسيين، بل سيظل قائد الأوركسترا في المنطقة العربية وسيكون لمواقفه دورها في تحديد توجهات السلطة في المملكة العربية السعودية الحليف الاستراتيجي وموقع ولي العهد الامير محمد بن سلمان الذي حافظ على الأقل حتى الان على مكانته بعد جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي البشعة في سفارة بلاده في أنقرة، وقد سجل التحوير الواسع على تركيبة الحكومة السعودية رحيل زعيم الديبلوماسية عادل الحبير أحد أكثر المتمسكين برحيل الأسد، ليحل محله رجل الاقتصاد العسيري، بما يعكس ربما تحولا اكثر عمقاً في المملكة في المرحلة القادمة وربما يعيد خلط الأوراق في الملف اليمني او ما بات يعرف بالحرب المنسية التي استنزفت الآلاف وشردت الملايين وقتلت ودمرت وخربت ما كان يعرف باليمن السعيد... ترامب اظهر قدرة رهيبة على الخروج من كل الأزمات التي أحاطت به وفرض ديبلوماسية امريكية شبيهة بشخص الرئيس الامريكي لا تعترف بثوابت او تقاليد ولكنها تقوم على منطق الصفقات وما تحمله من مكاسب وأرباح وتزيله من خسائر. فالمشهد رغم ما رافق سياسته حتى الان من تناقض صارخ في المواقف وتذبذب وغياب لرؤية واضحة في السياسة الخارجية الامريكية في التعاطي مع اعقد الأزمات في الشرق الاوسط وآخرها الانسحاب الامريكي من سوريا الذي أكده قبل نهاية العام واستغنى بسببه عن وزير الدفاع ماتيس الذي خالفه الرأي ودخل بمقتضاه في صراع معلن مع فريق مستشاريه وعدد من النواب الجمهوريين في الكونغرس قبل ان يعود لاحقا ويعلن تراجعه عن هذا الانسحاب وتأجيله الى موعد لاحق وهو ما عرضه لسيل من الانتقادات ودفع بالنائبة الديموقراطية إليزابيث وارن الى اعلان التحدي المبكر وتأكيدها خوض سباق الانتخابات الامريكية في 2020، وهي مسالة تبقى بدورها محاطة بكثير من الغموض والضبابية ولكن من شانها ان تعكس ما تتخبط فيه الخارجية الامريكية من تناقضات غير مسبوقة منذ ظهور ترامب في المشهد. والأرجح ان الخطوة التاريخية التي تحققت بين واشنطن وبيونغ يانغ بعد اللقاء الذي جمع ولأول مرة بين الرئيس ترامب ونظيره الكوري الشمالي توشك ان تتبخر بعد ان أكد كيم انه يرفض رهن بلاده لخيارات ترامب في حال استمرار العقوبات الامريكية على كوريا الشمالية ... لا خلاف ان العام الجديد الذي بدا يكشف عن بعض من أسراره لن يكون من دون مفاجآت، ولكن يبقى الاكيد ايضا ان التحولات في المشهد الدولي لا تخضع للصدفة او الأهواء وهي ليست خارجة عن حسابات صناع القرار والقوى المتنفذة في هذا المشهد والتي لديها ما يكفي من الخبراء والأعين لقراءة ما ظهر او خفي من الأحداث وتداعياتها الآنية والمستقبلية، لتستشرف وتستبق المخاطر وتسعى الى تعزيز مواقعها ومصالحها الاستراتيجية حتى لا تترك منفذا او معبرا يمكن ان يهز مواقع نفوذها او يقلص دورها، وهي بذلك تراقب وترصد وتستنفر في تحديد كل السيناريوهات بما في ذلك كل ما يمكن ان يبدو أمرا مستحيلا في نظر الجميع.. ستكون الأيام والأشهر القادمة حبلى بالأحداث بين المفاجئ الى درجة الصدمة وبين المتوقع الى درجة تغيب معها كل قدرة على التغيير نحو الافضل وتجنب استنساخ السيناريوهات الفاشلة التي تدفع ثمنها الشعوب من عدم استقرارها وانهيارها وسقوطها..