أتحفتنا الصحافة العربية أمس بخبر مفاده أن مخرجا جزائريا حاول الانتحار بإضرام النار في نفسه في مقر قناة جزائرية خاصة بعد أن استنفد على ما يبدو كل الطرق المتاحة دون الحصول عن مستحقاته المالية وهي نتيجة أتعابه عن مسلسل كان قد أخرجه لفائدة القناة وبثته في رمضان 2017. ولحسن الحظ، فإن النيران لم تأت على كامل جسد الرجل فقد أصيب وفق نص الخبر بحروق مست 52 بالمائة من جسده، لكن ذلك لا يخفف من هول المأساة، بل كان من الممكن أن تلتهم النيران كامل جسده وأن ينضم ببساطة إلى قائمة الذين لعبت بهم الأقدار وجعلتهم يخسرون حياتهم لأسباب بائسة وتافهة. فلئن كان الانتحار في حد ذاته مكروها ولا يمكن أخلاقيا القبول بتفاضلية معينة بين أنواع الانتحارات لأنها تبقى كلها اختيارات تدل على اليأس وعلى لجوء اصحابها للحل السهل، فإن الأحداث تضطرنا أحيانا إلى الحديث عن الشيء المرّ والأمرّ منه والأمرّ في قضية الحال هو أن تدفع الظروف المادية فنانا أو شابا أو أي شخص لوضع حدا لحياته. فالأمور المادية تبقى في نهاية الأمر مقدورا عليها إذا ما قارناها مع عوامل أخرى أكثر صعوبة مثل العوامل النفسية والأمراض المستعصية التي قد تدفع بصاحبها في غياب واعز قوي ديني مثلا أو غيره إلى وضع حد لحياته بعد أن يكون قد تأكد من أن الأمور مفلتة منه وأن قدره ليس بيده. ولنا أن نشير في هذا السياق إلى أن أغلب حالات الانتحار أو محاولات الانتحار التي تم تسجيلها في تونس مثلا بعد اقدام محمد البوعزيزي ( 17 ديسمبر 2010) على حرق نفسه وينسب له اليوم أنه اشعل بذلك الشرارة الأولى للثورة، أقدم عليها أصحابها لأسباب مادية. وما يجعل الأمر مأساويا ومقرفا في نفس الوقت هو أننا وصلنا إلى مرحلة صار فيها الانتحار يراود الفنان والمبدع بسبب البؤس والفقر وقلة ذات اليد في وقت تتحول فيه مجتمعاتنا على مرأى البصر إلى مجتمعات استهلاكية إلى درجة النهم. أليس هذا إذن دليل افلاس مجتمعاتنا التي تدوس اليوم الفنان والمبدع بالاقدام؟ والمثير في الأمر أن وضعية مثل وضعية المخرج الجزائري الذي حاول أن يضع حدا لحياته بسبب تهاون «المشغّل» كان من الممكن أن يقع تفاديها لو توفرت فقط حفنة من المليمات. نعم إن أتعاب الفنان والمبدع والمثقف في بلدان مثل بلداننا هي ليست أكثر من حفنة مليّمات إذا ما قارناها مع ما تنفقه دولنا في مجال الإدارة والتصرّف وفي المناصب العليا التي عادة لا تتناسب تكاليفها مع المردود والنجاعة المطلوبة. لكن ماذا ننتظر من بلدان مثل بلداننا لا تعتبر الإبداع والفن والفكر والمعرفة من بين أولوياتها غير الذي نراه يوميا، حيث تتغول فئات جشعة وتأثيرها مدمر في حين تموت فئات أخرى جوعا ويبلغ بها اليأس منتهاه حتى تفكر في وضع حد لحياتها احباطا ويأسا، ليس فقط لأسباب مباشرة تتعلق بها وبعملها وإنما بسبب أمة لا تقدر أصحاب المهن والحرف التي تطور الذائقة وتهذب السلوك العام، حق قدرهم. وإن أخشى ما نخشاه اليوم أن تتحول أخبار الانتحار أو محاولات الانتحار في صفوف الشباب الذين هم مستقبل هذه الأمة أو في صفوف المبدعين الذين هم أملهما وحراس القلعة وأي كانت الاسباب التي أدت إلى ذلك، إلى خبر عادي يدرج في المتفرقات من الأخبار.