الفنون الشعبية كانت عنوانا بارزا لاحتفالية مهرجان مسقط في دورته الحادية والعشرين رغم النقلة النوعية التي ما انفكت تشهدها الساحة الثقافية عامة وقطاع الموسيقى والفنون في سلطنة عمان في السنوات الأخيرة وما سجلته من صعود نجم بعض الأسماء وانتشارها على مستوى إقليمي خليجي على غرار الفنان سلطان العماني وهيثم محمد البلوشي الذي لمع نجمه في بوليود الهند وغيرهما من الفنانين الشبان المختصين في الأغاني الوترية والسائرين على طريق نجوم اغنية الخليج. ولعل ما يفسر ذلك هو ما تتميز به الفنون الشعبية والتقليدية من ثراء وتنوع وتصنيف جزء كبير منها ضمن التراث العماني غير المادي باعتبار أن سلطنة عمان تعد من أقدم البلدان المستقلة بعد إعلان استقلالها عن المستعمر البرتغالي سنة 1650 أي بعد مائة وخمسون عاما من الاستعمار. وهو العامل الذي يمكنها من إرساء تقاليد ثقافية وفنية متجذرة في القدم ومحافظة على خصوصية عمان الثقافية والحضارية. وهو تقريبا ما تؤكده أدلة ومعطيات مادية وتاريخية يحتفظ بها المتحف الوطني العماني الذي يعتمد على تقنيات حديثة لعرض وتقديم مادة تاريخية خاصة بسلطنة عمان كأقدم البلدان في المنطقة العربية. والأهم في ذلك أن هذه الفنون تختلف من جهة لأخرى ومن ولاية لأخرى ولا يقتصر الأمر في ذلك على الفرق الرجالية بل شملت أيضا عددا هاما من الفرق الغنائية والموسيقية النسائية. الأمر الذي جعل هذه الأنماط من الفنون تكون حاضرة بقوة في المناسبات الرسمية وفي التظاهرات الثقافية والفنية الكبرى والمناسبات الخاصة حسب تأكيد عدد كبير من ممارسي هذه الأنماط الفنية والقائمين على المشهد الثقافي والإعلامي في سلطنة عمان. لذلك راهن مهرجان مسقط في دورة هذا العام على هذه «التلوينة» الفنية وفق برنامج موسع وشامل سجل مشاركة فرق خاصة بالبدو وفرق فنية اخرى خاصة بأهل البحر وأخرى من المناطق الداخلية. وما شد الانتباه في هذا المهرجان ما تحظى به عروض هذه الفرق من متابعة جماهيرية واسعة تشمل مختلف الشرائح العمرية. وفسر بعضهم ذلك بأن ما تقدمه هذه الفرق الشعبية والتقليدية من أعمال وعروض نابع من واقع المجتمع العماني ومحافظة في شكله ومضمونه على خصوصية هذا البلد رغم ما تعرفه بعض التجارب من محاولات للانفتاح على العصر وإدخال تطويرات على بعض الآلات الموسيقية المعتمدة. ولعل من أبرز الأنماط الموسيقية الشعبية التي تحظى بصيت يتجاوز حدود عمان ولكن يحمل بصمتها فن «الرزحة» الذي يعد من أعرق الفنون ويعتمد على المبارزة والإلقاء او المطاردات الشعرية. وتوجد عدة فرق مختصة في هذا النمط من الفنون المنتشرة بكامل البلاد على خلاف بعض الأنماط الأخرى التي تخضع الخصوصيات الجهوية تحديدا. إضافة إلى فن «العازي» وهو بدوره من الفنون الشهيرة ويعتمد على فن الإلقاء الشعري دون تنعيم او غناء حيث يمسك الشاعر بسيفه وترسه»، ولا يقدم سوى قصائد المدح والفخر بطريقة استعراضية يعتمد فيها على هز سيفه بفخر. وقد ساهم انتشار مثل هذه الفرق والمحافظة على حضورها وتشريعات في مختلف الفعاليات الثقافية في تكوين أجيال من الشعراء والمبدعين المختصين في هذا المجال إذ يكفي الاستدلال على ذلك بما تضمه عديد الفرق من مبدعين شبان على غرار فرقة التراث الحماسية بصحار. فضلا عن أنماط أخرى نذكر من بينها «همبل» والتغرود» و «الآونة» و»المالد» التي تغلب عليها الطقوس الدينية والتقليدية الشعبية. ويحظى هذا النمط الأخير بجماهيرية عربية وهندية واسعة. ولا يقتصر الأمر في ذلك على الفرق الرجالية بل كشف المهرجان عن انتشار مجموعات من الفرق النسائية المختصة في الفنون التقليدية من بينها من تقدم «الترشح الشح» و»الحمبورة» و»الدان دان» و»السومة». وما يلاحظ في عروض أغلب هذه الفرق هو حضور الطابع والإيقاع الإفريقي وأيضا الهندي والخاص ببعض البلدان الاسيوية الاخرى. مما يجعل ما يقدمونه من أعمال يكون بمثابة مقاربة فنية جامعة ونوعية فيها مزيج من الثقافات والفنون والحضارات يتماهى فيها العربي مع الإفريقي والفارسي والهندي... على نحو تعكس ما عرفه المجتمع العماني من حركات انفتاح و»تجانس» حضاري وثقافي ومجتمعي، كان لموقعه الجغرافي وما عرفه من حركية تجارية وبحرية وتوسع جغرافي في القارة الإفريقية والآسيوية، تأثير وانعكاس كبير على ذلك. وأثبت المهرجان أن سياسة الدولة تراهن على الثقافة التقليدية كعنصر أساسي وآلية للتنمية وتحقيق النهضة والتطور وذلك من خلال منح الأولوية في تأثيث برامج المهرجانات والتظاهرات الثقافية وغيرها من المناسبات الاحتفالية المشابهة، للإبداع المحلي وذلك بفتح مجال المشاركة للفرق والفنانين العمانيين بدرجة أولى في مختلف المجالات. وهذا من شأنه أن يدعم توجه عمان للترويج لثقافتها وفنونها والتعريف بها على نطاق دولي واسع. والقاسم المشترك بين عروض هذه الفرق أنها تحافظ على الزي العماني باعتبار أن ذلك يعد شرطا يلتزم الجميع به في إطار تكريس سياسة الدولة في الترويج للخصوصية الثقافية والحضارية لسلطنة عمان ومساعي توسيع دائرة انتشارها واعتمادها وخصوصية تطبع وتميز الحضور العماني إقليميا وعالميا على اصعدة مختلفة.