لا يحق لنا اعتبار ما تم كشفه مؤخرا بشأن "المدرسة المشبوهة" بالرقاب - نقول هذا الوصف حتى لا يلتبس الأمر مع رياض الأطفال القرآنية التابعة لوزارة المرأة ولا مع الكتاتيب الخاضعة لاشراف وزارة الشؤون الدينية - صادما أو مفاجأة غير متوقعة بل هو نتيجة حتمية وامتداد لحالة من التقاعس والتواطؤ واللامبالاة أنتجت مأساة وجرما في حق الطفولة. ليس القصد هنا من الدعوة إلى عدم الاستغراب هو موضوع المدارس القرآنية وكل نقاط الاستفهام التى تحوم حول نشاطها وغاياتها والمشرفين على إدارتها ومن يراقبها، فهي مسألة قديمة متجددة أثيرت مرارا وتكرارا دون الحسم فيها ولا أحد يملك الإجابة عن هذا الصمت المريب إلا من بيده السلطة والقرار ولا يحرك ساكنا، ولكن الغاية الإعتراف أن وضع الطفولة في بلادنا كان ينذر منذ أمد بعيد بواقع تجاوز كل المؤشرات الحمراء مع ذلك ظل خارج دائرة الاهتمام وفي أسفل الأوليات على امتداد السنوات الأخيرة. من منا لم يطلع على تقارير واحصائيات سابقة كشفت واقعا مريرا لطفولة مهددة ومغتصبة ومن منا لم يعاين تنامى مظاهر الإهمال والتقصير في حق الأطفال في العائلة وفي المؤسسات التربوية وفي الشارع تتجسد يوميا،أمام أعين الجميع ومنهم المسؤول والمؤتمن على رعاية الأطفال وحمايتهم، في صورة الاهمال الاسرى والتسرب المدرسي والأخطاء البيداغوجية والتعليمية والوقوع في شباك المخدرات والاستغلال الاقتصادي للأطفال في الإعمال الشاقة كمعينات وغيرها أو في التسول أو في الأعمال الإجرامية والإرهابية دون أن ننسى حالات العنف و الاعتداءات الجنسية على الأطفال والقصر.. قد يقول البعض أن قطاع الطفولة كغيره من بقية القطاعات يعيش واقعا متدهورا بسبب حالة عدم الاستقرار والأزمات التى تعصف بالبلاد ،لكن ينسى هؤلاء أن التدارك سيكون ممكنا في كل المجالات مهما كانت الخسائر والتداعيات ولن يكون يسيرا في مجال الطفولة ومن هنا فلا تسامح مع تقصير ينحت مستقبلا مظلما لجيل المستقبل. ولعل التساؤل الحارق بعد الكشف عن حالات الإعتداء والاستغلال في المدرسة المشبوهة بالرقاب لحوالي 42 طفلا تتراوح أعمارهم بين 10و18 سنة منقطعون عن الدراسة ويُقيمون اختلاطا بنفس المبيت في ظروف لا تستجيب للشروط الصحة والنظافة والسلامة، ويتعرّضون للعنف وسوء المعاملة ويتم استغلالهم في مجال العمل الفلاحي وأشغال البناء ويتم تلقينهم أفكارا وممارسات متشددة وفق ما أكده بلاغ الداخلية،اين كانت هياكل الرقابة والمؤسسات والجهات المعنية بحماية الطفولة والتعهد بالحالات المهددة؟ وماذا عن فاعلية هذه الهياكل وبقية التشريعات في مجال حماية الطفولة على أرض الواقع لا في موضوع مدرسة الرقاب فقط بل في كل مظاهر تهديد الطفولة واستغلالها؟ تحتلّ تونس المرتبة التاسعة دوليا من بين 163 بلدا مصادقا على اتفاقية الأممالمتحدة لحقوق الطفل حيث صادقت تونس على الاتفاقية منذ عام 1991 وأفردت الطفولة في بلادنا بمرصد للإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطف كما وضعت مؤخرا وزارة المرأة استراتيجية متعددة القطاعات لتنمية الطفولة المبكرة (2017/2021) إلى جانب السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة 2016-2025 .. وعلى هذا الأساس تم مؤخرا اختيار تونس لسنة 2020 "عاصمة دوليّة لطفولة دون عقاب بدني" وذلك "تقديرا لجهودها في مجال تكريس حقوق الطفل وتثمينا لمكانتها الريادية في المجال على المستوى الدولي" استنادا لتصريح لوزيرة شؤون المرأة. لكن الواقع يؤكد أن التشريعات والإشادة الدولية بمفردها لا تحمى الطفولة في بلادنا ولا تضمن مستقبلا آمنا ما لم يقترن مع سياسية دولة واضحة وصرامة ومراقبة وتحسيس ويقظة مستمرة لانقاذ ما يمكن انقاذه قبل فوات الآوان.