نحتفل على امتداد السنة الحالية بمرور ستين عاما على إقامة علاقات ديبلوماسية بين تونسوألمانيا. ويتنزل هذا الاحتفال في سياق تطور محمود للعلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين من ناحية وتباين في المستوى بينهما في كل ما له صلة بمؤشرات جودة الحياة ونوعيتها. ولا يساورنا الشك لحظة في أن هذه المفارقة يمكن ان تكون منطلقا للبحث في ما يميز النموذج الألماني لأننا نؤمن أن هذا النموذج الذي أصبح مضرب الأمثال إلى الحد الذي جعل البعض يتحدث عن «معجزة ألمانية» يستند إلى خلفية ثقافية من المهم التوقف عند أهم مكوناتها لان النشاط الاقتصادي هو في نهاية الأمر تجسيد لتصور للمجتمع وللعلاقات التي تخترقه. قد لا يتسع المجال للتوقف عند أهم ما يميز «العقلية الألمانية» ولكن سنكتفي بأهمها. ذلك أن الشخصية القاعدة الألمانية تتأسس على مقولة مركزية وهي «الإصرار والمثابرة». فالمدرسة الألمانية وكل مؤسسات التنشئة والتربية تعمل على نحت الفرد الألماني على مغالبة الصعاب وعلى التفوق عليها وهو ما يتجلى في ما تحقق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا. لقد خرجت ألمانيا من «المغامرة النازية» منهكة ومهزومة ومدمرة ومقسمة وخاضعة للرقابة والوصاية، هذه الوضعية لم يتعامل معها الشعب الألماني بالصخب والصراخ والشعارات بل بالعمل الدؤوب والمضني وبالعمل على بناء مجد جديد لا يقوم على المغامرة والاعتداء على الشعوب الأخرى بل بالسيطرة على العلوم والسيطرة على أهم ما في التجربة الإنسانية من أبعاد وهما بعدا الزمان والمكان. ذلك أن الشعب الألماني يحترم إلى حد التقديس للوقت والمجال. احترام الوقت وإعطاء كل مجال حقه هما من أهم ميزات الشعب الألماني وهو ما يؤدي إلى التمسك بجودة ما يتم انجازه والى رفع مستوى الإنتاجية وهذا ما يمثل احد أهم أسباب النجاح في المجال الاقتصادي. والشعب الألماني يحترم المكان إلى حد يمكن الحديث معه عن شغف بالفضاء وتقشف في المساحة. لا يميل الشعب الألماني إلى فخامة الأماكن والبهرج الفاقد للمحتوى بل يتمسك بوظيفية الفضاء لان المكان هو بالأساس أداة لتحقيق ما هو أهم وهو راحة الإنسان وتمكينه من أفضل الظروف للعمل. وتقوم العقلية الألمانية أيضا على الإيمان بالتضحيات المتبادلة والتفكير في الأجيال القادمة. هذا الإيمان عبر عنه بوضوح الجيل الذي تصدى لإعادة اعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لم يفكر أبناء هذا الجيل في حقوق فئوية أو قطاعية بل انصرف إلى عمل لم ينقطع ووضع نصب عينيه الصورة التي يجب أن تكون عليها ألمانيا بعد عقود. والتفكير في الأجيال القادمة يتجلى في ألمانيا في الاحترام الصارم للبيئة والذي يرتقي إلى نفس درجة احترام القانون هذا دون أن ننسى أن النجاح الاقتصادي يستند في ألمانيا إلى شعور عميق بالمواطنة وهو ما ساهم في تطور الاقتصاد الجمعياتي من ناحية والى تطور ثقافة المؤسسة لان العامل يعتبر نجاح مؤسسته نجاحا شخصيا له. والنموذج الألماني هو نموذج عمل بعيد عن الادعاء والتظاهر لأنه يستبطن قيم التواضع والابتعاد عن التعالي عن المجتمعات الأخرى والظهور مظهر المتفوق. هناك تواضع أساسه الشعور بثقة ايجابية في النفس والبحث عن علاقات قوامها الندية والتكافؤ هو الذي يوجه تعامل الشعب الألماني مع الشعوب الأخرى وهو ما يعني انه بالإمكان دفع سبل الاستفادة من العلاقات مع ألمانيا إلى مداها الأقصى خاصة وان بلادنا التي تبحث عن نموذج تنموي جديد لا يمكن إلا أن تستفيد من النموذج الألماني.