اعلن أول أمس لطفي المرايحي الامين العام للاتحاد الشعبي الجمهوري والمترشح للانتخابات الرئاسية السابقة لاوانها انه قرر مقاضاة عدد من وسائل الإعلام بسبب «المس من شخصه ومحاولة تشويه مسيرته» على حد تعبيره. وتلتقى خطوة المرايحي في اتهامه لعدد من وسائل الإعلام مع سياق عام بدأ يتشكل في الأونة الأخيرة واتضح أكثر بعد الإعلان عن نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، حيث عادت وبقوة موجة شيطنة الإعلام واتهامه بخدمة أجندات ليست دائما ضمن إطار المصلحة الوطنية. كما شهدنا حملات على مواقع التواصل الإجتماعي تدعو إلى مقاطعة بعض المؤسسات الإعلامية في الأثناء توجه أصابع الاتهام إلى عدد من الصحافيين ومقدمي البرامج وبالخصوص «كرونيكورات» بعض المنابر التلفزية بارتباطهم بأطراف في السلطة وبخدمة أجندات تتجاوز حتى حدود الوطن. عودة الى المربع الاول مناخ شبيه إلى حد ما بموجة مهاجمة الإعلام بعد الثورة مباشرة وتحديدا إبان حكم «الترويكا»، وإن كانت تفهم إلى حد ما تلك الموجة في سياقاتها حينها بعد سنوات من تدجين الإعلام خلفت لدى جزء من الرأي العام رواسب لم تستوعب بعد انعتاق إرادة الصحفيين، إلى جانب حداثة عهد الهياكل التعديلية والمهنية في القطاع وسط مناخ جديد من الحريات دون أن ننسى الوضع الامني والسياسي حينها وحجم التحديات والتهديدات المتربصة بالبلاد داخليا وخارجيا. لكن أن تعود اليوم هذه النزعة «العدائية»،إن صحت العبارة، تجاه الإعلام بعد حوالي 8 سنوات من الانتقال الديمقراطي ومن الحريات ومن الدربة ومحاولات الإصلاح على احتشامها التى شملت القطاع ومنها تركيز بعض المؤسسات التعديلية، وأن تتزامن هذه الاتهامات والدعوات للمقاطعة مع سياق انتخابي ومرحلة فارقة في مسار الانتقال الديمقراطي تحتاج دون شك إلى دور فاعل للسلطة الرابعة، فإن المسألة تحتاح دون شك إلى وقفة تأمل للوقوف على الأسباب وحقيقة الدوافع والسؤال المحوري في هذا السياق هل أن الإعلام مدان فعلا ويتحمل جزءا من المسؤولية في ظل تعطل الإصلاحات العميقة وضعف هياكله وصعوبات أوضاع المؤسسات الإعلامية والصحفيين على حد السواء ونقص الكفاءة والتكوين أم أن الإعلام ضحية تداعيات المناخ العام في البلاد وفشل النخبة السياسية بالخصوص؟ مستوى الثقة في الإعلام تجدر الإشارة إلى أن تراجع مستوى الثقة في الإعلام ليست مستجدة أو وليدة السياق الحالي بعد نتائج الانتخابات الرئاسية، بل كشفت دراسات سابقة ونتائج سبر آراء عن وجود فجوة كبيرة بين وسائل الإعلام والجمهور المتلقى على غرار ما أظهرته نتائج سبر آراء صدر في ديسمبر الفارط عن مؤسسة زغبي للبحوث والدراسات واستطلاعات الراي، بأن 90 بالمائة من التونسيين لا يثقون في الاعلام. كما كشف أيضا سبر آراء آخر أنجزته جمعية «بر الأمان» بالشراكة مع معهد «ميديا سكان»media scan ، خلال الفترة الممتدة من 23 إلى 31 أوت 2018 واستهدف عينة تمثيلية من التونسيين تتكون من 1841 شخصا تبلغ أعمارهم 18 سنة فما فوق، محدودية الثقة في وسائل الإعلام حيث وصلت نسبة المستجوبين الذين لا يثقون البتة في وسائل الإعلام إلى خمسة وثلاثين بالمائة، وبين سبر الآراء أن 45 بالمائة من المستجوبين لا ينتظرون من وسائل الإعلام شيئا. لم تنتبه الهياكل المهنية إلى مثل هذه المؤشرات التى سبقت الاستحقاقات الانتخابية ولعل ما رافق المسار الانتخابي منذ فترة من توترات زاد من منسوب انعدام الثقة في وسائل الإعلام في ظل ما تم تداوله من تداخل بين العمل السياسي والمال والإعلام وتجاوز المقتضيات القانونية والأخلاقية التى تحدد الخيط الفاصل بينهما. تأثير المسار الانتخابي المتشنج وبرزت الأزمة بأكثر وضوح إلى السطح بعد نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها وفي هذا السياق يندرج تحرك المرشح لطفي المرايحي لمقاضاة بعض وسائل الإعلام حيث صرح انه «من الضروري اليوم وضع حد لعدد من الممارسات التي اعتبرها ممنهجة، وما فتئت تبرز من حين الى اخر من قبل بعض وسائل الاعلام لقاء الاتهامات بدون حقائق ملموسة خدمة لاجندات معينة وقد تفاقمت اكثر بعد الاعلان عن نتائج الدورة الاولى من الانتخابات الرئاسية السابقة لاوانها وبروز المترشحين قيس سعيد ونبيل القروي. اداء الهايكا وبين المرايحي انه التجأ الى القضاء «لاننا لانمتلك هيئة اتصال سمعي بصري قوية وادوات تعديلية واضحة» داعيا الى ضرورة ان يكون الاعلام مسؤولا لاسيما خلال هذه الفترة الانتخابية التي تتميز في مجملها بعدم الوضوح وفق تعبيره. كما برزت بوضوح بعد نتائج الانتخابات الأخيرة دعوات صريحة على مواقع التواصل الإجتماعي تطلب من المترشح للدور الثاني من الرئاسيات قيس سعيد مقاطعة بعض وسائل الإعلام واتهام هذه الأخيرة بالتحامل وبغياب الموضوعية والمهنية في التناول وفي المضمون إلى جانب خدمة أجندات بعينها. ولعل أكبر دليل على تداعيات تدنى مستوى الثقة والمسار الانتخابي المتشنج على القطاع والإعلاميين تجسد من خلال ما كشفته مؤخرا وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين خلال الفترة الممتدة بين 16 جويلية و16 سبتمبر ، حيث رصدت 34 اعتداء على الصحفيين تعلقت بالمسار الانتخابي من ضمن 40 اشعار بحالة اعتداء. وقد طالت الاعتداءات وفق تقرير الرصد للدورالأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، 36 صحفية وصحفيا، من بينهم 20 صحفية و16 صحفيا يعملون في 7 إذاعات و7 قنوات تلفزية وموقعين الكترونيين ووكالة أنباء وحيدة وجريدة مكتوبة وحيدة. وسجلت الوحدة خلال الدور الأول من الانتخابات الرئاسية ارتفاعا كبيرا لحالات المضايقة والمنع من العمل مقارنة بالفترات الماضية. وضع القطاع ومسار الإصلاح قطعا لا يمكن إنكار مسؤولية واقع القطاع في هذه الصورة التى يبدو عليها الإعلام لدى جزء من الراي العام وكثيرون يقرون بتعطل مسار الإصلاح الذي اقتصر على مخرجات هيئة أولى للإصلاح الإعلام اقتصر دورها في الدور الاستشاري مع سن المرسومين 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر و116 لبعث هيئة ثانية للإصلاح وتنظيم القطاع السمعي والمرئي كان يفترض أن تكون لها أكثر صلاحيات وقدرة على التعديل وانفاذ القانون لكنها عجزت في الكثير من الأحيان على القيام بدورها. ولم يكن الإهتمام بالتكوين وصناعة المحتوى والمضمون الإعلامي بالقدر الكافي وتم اختزاله في الملتقيات والبرامج والدورات التكوينية التي تشمل عددا من الصحفيين والإعلاميين والمدونين... وفي صياغة مدونات أخلاقية تستنسخ تجارب وضوابط غربية ظلت مسقطة على الواقع المحلي ومقتضيات التموقع في مشهد إعلامي وسياسي متقلب. منى اليحياوي جريدة الصباح * عبد اللطيف الحناشي: المسؤولية مشتركة بين الإعلاميين والسياسيين تبدو المسألة مركبة عند الحديث عن صورة الإعلام اليوم إذ لا يمكن الحديث عن عامل دون الآخر وبالقدر الذي يتحمل فيه الإعلام جزءا من المسؤولية فإن المناخ العام وفشل النخبة ساهم بشكل كبير في تكوين تلك الصورة عن الإعلام. يدفع المناخ العام بالضرورة إلى حدوث تجاوزات أو تضخيم حيث تكون النخبة السياسية طرفا لأنها تستدعى من قبل الإعلام. وكملاحظ أجد أن الإعلام المرئي الذي يستقطب أكثر من الصحافة المكتوبة مارس نوعا من الإصطفاف السياسي. وهناك قنوات تعتمد خطابا حادا وعنيفا وطريقة عرض يمارسها بعض «الكرونيكور» عن طريق رفع الصوت حد التعبئة أحيانا نفرت المشاهد ودفعت البعض لتكوين صورة سيئة عن الإعلام وأدواره. وتبدو بعض الفضائيات التى تتمتع بقدر من الحرية لا تقدر حجم مسؤوليتها وخطورة دورها ومدى تداعيات خطابها المعتمد. جانب آخر لا يقل أهمية وهو نوعية الأسئلة وطريقة إدارة الحوار في بعض البلاتوهات حيث يغيب الطرح العميق وتحضر الأسئلة التافهة والمضمون البسيط والمستفز أحيانا للضيف وهنا يتحمل المعد للبرنامج المسؤولية في الانطباع الذي سيترسخ لدى المتابع ولدى جزء من الراي العام. في المقابل لا يجب أن نغفل مسؤولية بعض السياسيين وفراغهم الفكري على مستوى البرامج فبعضهم مسقط أو طارئ على الحياة السياسية وحضورهم في وسائل الإعلام أضر بصورة النخبة السياسية كما أضر بالإعلام. ولعل المطلوب اليوم التوجه أكثر نحو عقلنة الخطاب السياسي والإعلامي على حد السواء والاختيار المدروس للمواضيع وطريقة عرضها. * الصادق الحمامي أستاذ في معهد الصحافة: الإعلام لا يقوم بدوره الرقابي على السلطة السياسية وعلى النخبة أعتقادي أن الإعلام يعيش أزمة عميقة وشاملة أدت إلى عدم قيامه بأدواره بالشكل المطلوب. وهناك قطاعات متزايدة من التونسيين لا يستهلكون الإعلام فهم لا يقرؤون الصحف ولا يتابعون الأخبار بل يطلعون على مضامين الميديا في أشكال متقطعة على شبكات التواصل الإجتماعي. ويعيش الإعلام أزمة داخلية وأخرى في علاقة بالمجتمع. وبالتالي لم يعد قادرا على الإضطلاع بالتنشئة السياسية. مع وجود قطيعة متعاظمة بينه وبين فئة الشباب بشكل خاص الذين يهاجمون اليوم الإعلام ويعبرون عن عدم رضاهم عن آدائه ومضمونه. ومصدر هذا العداء للإعلام في صفوف الشباب مرده أنهم ينظرون إلى الصحافيين وتحديدا «الكرونيكور» كجزء من السيستام أو من النخبة السياسية. أيضا من المهم التأكيد أن الإعلام التونسي وفي جزء كبير منه هو إعلام راي أو إعلام خبري ولا يقوم برقابة على السلطة السياسية وعلى النخبة في غياب الصحافة الإستقصائية والبحث في مواضيع الفساد وإنارة الراي العام بالتجاوزات والخروقات . * محمد شلبي (مختص في الإعلام):يبقى المشكل الأكبر هو فتح ملف التعديل الذاتي عندما يتعثر قطاع الإعلام في محيط ديمقراطي، حتى لو كان في طور الانتقال مثل الحالة التونسية، تكون المسؤولية مشتركة بين الإعلام والفاعلين السياسيين، من حكام ومعارضة، والمعنيين الأوائل وهم المواطنون. إذا لم يهتمّ المواطنون بالشؤون العامة أو يهتمون بها زمن الانتخابات فقط، تكون مساءلة النخب السياسية ضعيفة، وبالطريقة نفسها تفقد وسائل الإعلام مسؤوليتها في مراقبة الحكام... هناك داء أصاب بعض التلفزات والإذاعات الخاصة منها بالأساس يمكن أن نسميه بداء «الترفيه بمسرحة الصراعات السياسية». فالصراع في الحياة السياسية التنافسية بين السياسيين يجري بالأساس على الساحة الإعلامية في البلاتوهات التلفزية المسماة حوارية. ويتمثل هذا الصراع ببساطة في أن كل سياسي يحاول إثبات وجاهة مواقفه والتقليل من مواقف الخصم أو إنكارها وذاك أمر طبيعي في الحياة الديمقراطية. والبلاتوهات نمطان، هناك البلاتوه المتمثل في حوار بين الصحفي وضيفه وهو حديث قائم على سؤال-جواب يلعب فيه السياسي الدور المذكور أعلاه. وهناك البلاتوه الذي يحضره عدد من الضيوف للحديث في السياسة فتتداخل المواقف وتتشنج حتى يصبح البلاتوه ساحة معركة. إن محاورة السياسيين ضرورة ديمقراطية لإنارة الناس حتى ينتخبوا عن وعي. ولا يمكن إلاّ لقطاع الخدمة العامة أساسا من إذاعات وتلفزات أن يلعب هذا الدور. أما القطاع الخاص فلا يمكنه أن يكتفي بهذا الدور لأن غايته الأولي ليست تنوير الناس بل تحقيق الربح أولا و هنا تظهر الحاجة إلى التعديل والتعديل الذاتي. هذا الالتقاء بين الضرورية الديمقراطية في أن يكون هناك حوارا مع السياسيين وبين البحث عن الربح يجعل المؤسسات الخاصة تحول الحديث عن السياسة في عدد من البلاتوهات إلى فرجة. وأصبحت الفرجة تناسب عددا من السياسيين للظهور كأصحاب مواقف قوية لاستمالة الناخبين. ويلجأون في ذلك إلى التهجم على خصومهم باستخدام الشتم. ويساعدهم في الإغراق في الشتم والبذاءة المشرف على إدارة الحوار بطلب أجوبة قصيرة تكون عادة في شكل ردود فعل على ما قاله الخصم مما يفقد البلاتوه الموضوع الأساسي الذي أقيم من أجله. والظاهرة لا تخص المشهد الإعلامي في تونس وحده بل هي موجودة في كثير من الديمقراطيات وإن لم تكن متفشية. لقد ظهرت تسميات جديدة تعوض اسم برامج «توك شو» لوصف ما نراه من برامج تستخدم السياسة للفرجة منها «توك الشتم» و»توك المزبلة» وألطفها «توك المواجهة». وقد وجب أن ندقق أكثر في هوية الصحفي وتعريف معنى الإعلامي والمنشط والكرونيكور. في المقابل يحتاج الصحفيون إلى تكوين أفضل في الإعلام والاتصال حول محور مهم جدا وهو دور الإعلام في الديمقراطية. وفي اعتقادي يبقى المشكل الأكبر هو فتح ملف التعديل الذاتي. لماذا لم يُفعل مجلس الصحافة إلى الآن؟ فتح ذلك الملف سيعري مشاكل القطاع ويسهم في تشخيص الداء.